انّ من العجيب الغريب أمير مصر يتفرق عنه جنده ، ووالي قارّة أسلمته أنصاره ، لماذا كان ذلك؟ للاوهام والتهافهات ، أو للمطامع الشهوات؟ أين النخوة والحفاط؟ أين الاباء والحمية؟ أيظنون أنهم لو انضووا الى راية الهدى يحرمهم صاحبه الاعطاء؟ أو يضن عليهم بالوظائف؟ أو يقيم الحق بغيرهم؟ لا ها الله ما كان يدّخر الاعطيات إلا لهم ، ولا ينضد الكراسي بمن عداهم ، ولا قيادة الجيوش إلا بهم ، ولو عدلوا لما استلم الحكم سواهم.
لكن خسّة الطباع ولؤم العنصر حالا دون أن يحضوا بالشرف وضاح والسعادة في الدنيا والآخرة فاستمرأوا أجاج الأمويين تحت راية ابن مرجانة ، وتركوا التاريخ يذكرهم منافيات المروءة والحفاظ ولوازم قول الزور وخفر الذمم « ولعذاب الله أكبر لو كانوا يعلمون ».
لما تفرق الناس عن مسلم عليهالسلام وسكن لغطهم ولم يسمع ابن زياد أصوات الرجال أمر من معه في القصر أن يشرفوا على ظلال المسجد لينظروا هل كمنوا فيها. فكانوا يدلون القناديل ويشعلون النار في القصب ويدلونها بالحبال الى أن تصل الى صحن الجامع ، وفعلوا ذلك بالظلة التي فيها المنبر فلم يروا لأصحاب ابن عقيل أثرا ، فأعلموا ابن مرجانة فأمر مناديه أن ينادي في الناس ليجتمعوا في المسجد ، ولما امتلأ المسجد بهم رقي المنبر وقال : ان ابن عقيل قد أتى ما قد علمتم من الخلاف والشقاق فبرئت الذمة من رجل وجدناه في داره ، ومن جاء به فله ديته ، اتقو االله عباد الله والزموا طاعتكم وبيعتكم ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا.
ثم أمر ابن زياد صاحب شرطته الحصين بن تميم أن يفتّش الدور والسكك ، وحذّره بالفتك الذريع اذا أفلت مسلم وخرج من الكوفة (٨).
فقام الحصين بهذه المهمة فبثّ العيون ووضع الحرس على أفواه السكك ، وتتبّع الأشراف الناهظين مع مسلم فقبض على عبد الأعلى بن يزيد الكلبي وعمارة بن
__________________
٨) الطبري ج٦ ص٢٠٩.