الاختلاف وليد ساعة رواية من رواه ، بل حدث بعد زمان خلافته ، حيث نشط علماء الكلام من مدرسة الخلافة في توجيه قراءته بإعرابه بالرفع ، ليرفعوا عنهم إصر الدفع ، فكان من الطبيعي أن ينبري علماء الكلام من أنصار الإمامة إلى الرد على أولئك بتقريب قراءة النَصب لدفع حدة أهل النُصب ، وهذا ما أسعر نار الخصام بين علماء الكلام ، وسرى أوارها إلى علماء الحديث من أنصار الخلافة ، ولا يبعد أن تكون السياسة دسّت أنفها في توسيع الفجوة.
ولو أردنا أن نفحص التراث السني بحثاً عن الصحيح في القراءة ، سنجد سيلاً من صور الحديث المختلفة مع وحدة الراوي ووحدة السبب ، وهذا مما يبعث على العجب ، وقد يفاجأ القارئ إذا أحيط علماً بأنّ صور الحديث تجاوزت العشرة ، وهو حديث واحد رواه أبو بكر ، فمن أين جاء الاختلاف في الرواية بين روايات كتب الصحاح والسنن والمسانيد والتاريخ والسيرة ؟
والجواب ببساطة : إنّما جاء من الرواة من بعد أبي بكر ، فكلّما سمعوا نقداً له في دلالته ، وضعوا ما يسدّ الثغرة ولو بتحوير في قراءته ، ولما كان استعراض جميع التراث السني التي ذكرت الحديث بصوره المختلفة يحتاج وقتاً طويلاً ، فسأكتفي بعرض صور الحديث المختلفة في كتابين ، هما عند أنصار الخلافة من خيرة الصحاح ، وما ورد فيهما معاً محكوم عليه بالصحة عندهم ، والحديث الذي يرد فيهما معاً يقولوا عنه : متفق عليه ولا مجال لردّه ؛ لأنّه أخرجه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين ، والصيد كل الصيد في جوف الفراء.
فنقول : لقد ورد الحديث في صحيح البخاري في عدة مواضع نافت العشرة ، كما ورد في صحيح مسلم في خمسة مواضع ، وقد اختلفت صور الحديث فيهما اختلافاً بيّناً يوهن الاحتجاج بالحديث ، ويكشف عن تعمّد الإبهام والإيهام لاستغفال القرّاء ، وسد باب الاستيضاح والاستفهام ، في وجه من يسأل ، حتى ولو لم يرد الحجاج والخصام.