وإنك لم تبلغ في النظر لنفسك [ وإن اجتهدت مبلغ ] نظري لك ، واعلم. [ يابني ] أنه لو كان لربك شريك لاتتك رسله ، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت صفته وفغاله ولكنه إله واحد كما وصف نفسه ، لا يضاده في ذلك أحد ولا يحاجه وأنه خالق كل شئ وأنه أجل من أن يثبت لربوبيته بالاحاطة قلب أوبصر (١) وإذا أنت عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثك في صغر خطرك وقلة مقدرتك وعظم حاجتك إليه أن يفعل مثله في طلب طاعته والرهبة له والشفقة من سخطه ، فانه لم يأمرك إلا بحسن ولم ينهك إلا عن قبيح.
أى بني إني قد أنبأتك عن الدنيا وحالها وزوالها وانتقالها بأهلها ، وأنبأتك عن الاخرة وما أعد لاهلها فيه وضربت لك فيها الامثال ، إنما مثل من أبصر الدنيا كمثل قوم سفز نبابهم منزل جدب فأموا منزلا خصيبا [ وجنابا مريعا ] فاحتموا وعثاء الطريق (٢) وفراق الصديق وخشونة السفر في الطعام والمنام (٣) ليأتوا سعة دارهم ومنزل قرارهم ، فليس يجدون لشئ من ذلك ألما ولا يرون نفقته مغرما ولا شيئا أحب إليهم مما قربهم من منزلهم ، ومثل من اغتربها كمثل قوم كانوا بمنزل خصب فنبابهم إلى منزل جدب فليس شئ أكره إليهم ولا أهول لديهم من مفارقة ما هم فيه إلى ما يهجمون عليه (٤) ويصيرون إليه ، وقرعتك بأنواع الجهالات لئلا تعد نفسك عالما ، فإن ورد عليك شي لا تعرفه أكبرت ذلك فان العالم من عرف أن ما يعلم فيما لا يعلم قليل فعد نفسه بذلك جاهلا ، فازداد بما عرف من ذلك في طلب العلم اجتهادا ، فما يزال للعلم طالبا ، وفيه راغبا ، وله مستفيدا ، ولاهله خاشعا ولرأية متهما (٥) وللصمت لازما ، وللخطأ حاذرا ، ومنه مستحييا.
____________________
(١) كذا وفى النهج « من أن يثبت ربوبيته باحاطة قلب أو بصر ».
(٢) الجناب : الناحية. والرابع : كثير العشب. ووعثاء الطريق : مشقته.
(٣) في النهج « خشونة السفر وجشوبة المطعم » والجشوبة بضم الجيم : الغلظ أو كون الطعام بلا أدم.
(٤) هجم عليه أى انتهى اليه بغتة.
(٥) في المصدر « ولا هله خاشعا مهتما ».