فأقول : لا شك أنّ ملوك بني العباس كانوا بسلوكهم وسيرتهم في سبيل تثبيت حكمهم قد أغدقوا العطاء وقرّبوا إليهم من وعاظ السلاطين من خفّ وزنه ورق دينه ، فكانوا طوع إرادتهم ، وقد مرّت بنا شواهد على هذا في مسألة كثرة أحاديث ابن عباس. وقرأنا عن الحاكمين مع علمائهم ما جعلنا في موقف الشك في نسبة تدخل العباسيين في تضخيم وتفخيم تراث جدّهم في الحديث ، وكذلك نحن الآن في مسألة آرائه الفقهية ، ولقد مرّت بنا كلمة المنصور الدوانيقي مع مالك بن أنس حول تعيينه منهجية كتابة الموطأ بقوله : ( تجنب شدائد ابن عمر ورخص ابن عباس وشواذّ ابن مسعود ) ، وهذا منهج ليس فيه إلزام أو حث على تبعية فقه ابن عباس.
بل روى ابن سعد في ( الطبقات الكبير ) عن مالك بن أنس ، قال : ( قال لي أبو جعفر أمير المؤمنين : كيف أخذتم قول ابن عمر من بين الأقاويل؟ فقلت له : بقي يا أمير المؤمنين ، وكان له فضل عند الناس ، ووجدنا من تقدّمنا أخذ به ، فأخذنا به ، قال : فخذ بقوله ، وإن خالف عليّاً وابن عباس ) (١).
فهذا الذي رواه ابن سعد ـ وهو من مؤرخي الدولة ـ عن مالك ـ وهو من مدوني فقه الدولة ـ فإنّ صح فيعني أنّ المنصور لم يجعل فقيه دولته في حرج إن لم يذكر رأي جدّه ، بل أباح له حرية ما يأخذ من قول ابن عمر ( وإن خالف عليّاً وابن عباس ).
____________________
(١) الطبقات الكبير١ / ١٠٨ ط أوربا ( أفست ).