وامتنع أبو حنيفة أن يتولى القضاء ، وقال للمنصور : ( لو هددتني أن تغرقني في الفرات أو أن أليَ الحكم لأخترت أن أغرق ، فلك حاشية يحتاجون على من يكرمهم لك ، فلا أصلح لذلك ) (١).
على أنّ أبا حنيفة لم يخل من مداجاة المنصور تقية ، فقد قال الربيع بن يونس : ( دخل أبو حنيفة رضي الله عنه على أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور وعنده عيسى بن موسى ، فقال للمنصور : يا أمير المؤمنين هذا عالم الدنيا اليوم ، فقال له المنصور : يا نعمان ممّن أخذت العلم؟ فقال : عن أصحاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنهم ، وعن أصحاب عبد الله بن عباس رضي الله عنه وعنهم ، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، وما كان في وقت ابن عباس على وجه الأرض أعلم منه. فقال المنصور : لقد استوثقت لنفسك ) (٢).
ولنأخذ بعض النماذج من كلام الفريقين لمعرفة ملامح المجتمع الفكري في ذلك الوقت ، من أيام المنصور ، ثم المهدي ، ثم الهادي ، ثم الرشيد ، ثم المأمون ، وهكذا ، معتمدين على أعلام المؤرخين كاليعقوبي في تاريخه ، والمسعودي في مروجه ، والقاضي عياض في كتابه ترتيب المدارك ، ومراجعة سلسلة كتب أحمد أمين ، الذي استوقفنا بمزاعمه في الطريق بما قاله في ( فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام ) ، إنصافاً للجميع ، فإنّ من يذكر الخليفة الحاكم أو العالم يذكره بما له وما عليه ، وهذه سمة قلّ أن نجدها عند كثير من المؤرخين.
____________________
(١) تاريخ بغداد ١٣ / ٣٠٨ بتوسط ضحى الإسلام ٢ / ١٨٥.
(٢) جامع المسانيد ١ / ٣١ ، الخيرات الحسان / ٣٠.