فلنبدأ من أيام المنصور الدوانيقي ، فهذا الرجل الذي أقلقه أمر بني الحسن عليهم السلام ، فجدّ في أمرهم حتى قضى عليهم قتلاً وحبساً وتشريداً ، لم يخف عليه حال علماء زمانه الذين أفتوا بتأييدهم علانية أو سراً.
فصار بعض أئمة المذاهب تناله طائلة العذاب ، فجُردّ مالك بن أنس ـ إمام المذهب المالكي ـ وضرب بالسياط ، لأنّه أتهم بتأييده ثورة محمد ذي النفس الزكية ، ولم يكن حقيقة الأمر كذلك ، بل لأنّه أفتى بعدم لزوم أيمان البيعة ، لأنّها على إكراه ، ولا يمين لمكره. ولكنه سرعان ما استهوته الدنيا فانصاع طائعاً وأذلّ نفسه ، واحتلّ مكان الصدارة في الفتيا ، حتى اشتهر الأمر الخليفي ( لا يفتين أحد بالمدينة ومالك حاضر ) ، وحظي بمباركة المنصور فكتب له كتاب ( الموطأ ) ، ويعتبر هذا أوّل تدوين رسمي للسنّة بمثابة قانون الدولة ، وأراد المنصور حمل الناس عليه بالإكراه.
فلنقرأ ما دار بين الحاكم والعالم نقلاً عن مصدر غير متهم عليهما ، وهو كتاب ( ترتيب المدارك في أصحاب مالك ) للقاضي عياض المالكي :
( قال المنصور لمالك : ضع لنا كتاباً أحملهم عليه ، أو قال : ضمّ هذا العلم ، أو أجعلوا العلم علماً واحداً ، وتجنّب شدائد ابن عمر ، ورُخَص ابن عباس ، وشواذ ابن مسعود ، وأقصد أواسط الأمور ، وما أجتمع عليه الصحابة.
فقال له مالك : إنّ أصحاب رسول الله تفرّقوا في البلاد ، وأفتى كلّ