فلم يرض بما تزلّف به إليه غياث ، ولا رضى بما قال له مقاتل ، ولكنه أحياناً يغضي طرفه عن المتزلفين إليه بالكذب حفظاً لمكانته السياسية في قلوب العامة!
فلقد روى ابن الجوزي في كتابه ( المصباح المضئ ) ، بسنده قال : ( قعد المهدي قعوداً عاماً للناس ، فدخل رجل وفي يده نعل في منديل ، فقال : يا أمير المؤمنين نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أهديتها لك ، فقال : هاتها ، فدفعها إليه فقبّل باطنها ووضعها على عينه ، وأمر للرجل بعشرة الآف درهم ، فلمّا أخذها وأنصرف ، قال لجلسائه : أترون أنّي لم أعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يرها فضلاً عن أن يكون لبسها!
ولو كذّبناه لقال للناس أتيت أمير المؤمنين بنعل رسول الله فردّها عليّ ، وكان من يصدّقه أكثر ممن يدفع خبره ، حتى إذا كان من شأن العامة الميل إلى أشكالها والنصرة للضعيف على القوي ، فاشترينا لسانه ، ورأينا الذي فعلنا أنجح وأرجح ) (١).
أقول : لقد عدّ ابن الجوزي هذا الخبر من شواهد الذكاء عند المهدي فأدرجه في كتابه ( الأذكياء ) (٢) ، وهو إن دلّ على ذكائه السياسي فقد دلّ أيضاً على ضعف نفسه في رقة دينه ، ولا عتب على ابن الجوزي أن أورده في كتابيه فهو من المتزلفة للعباسيين ، ولكن هلمّ الخطب في الخطيب البغدادي حيث أورده في كتابه ( تاريخ بغداد ) (٣) ،
____________________
(١) المصباح المضئ١ / ٤١٨ ـ ٤٢٠.
(٢) الأذكياء / ٤٠ ـ ٤١.
(٣) تاريخ بغداد ٥ / ٣٩٤.