فأما الذين لم يجوزوا صدور المعصية عن الأنبياء قبل النبوة فقد أجابوا عن كل واحدة من هذه الوجوه.
( أما الأول ) فقالوا : المعصية مخالفة الأمر ، فالأمر قد يكون بالواجب والندب ، فإنهم يقولون : أشرت عليه في أمر ولده بكذا فعصاني ، وأمرته بشرب الدواء فعصاني. وإن كان كذلك لم يمتنع أن يكون إطلاق اسم العصيان على آدم ، لا لكونه تاركا للواجب بل للمندوب.
ولقائل أن يقول : إنا قد بينا أن ظاهر القرآن يدل على أن العاصي يستحق العقاب وذلك يقتضي تخصيص اسم العاصي بترك الواجب فقط وبينا أنه أيضا اسم ذم؛ فوجب أن لا يتناول إلا تارك الواجب ، ولأنه لو كان تارك المندوب عاصيا لوجب وصف الأنبياء بأنهم عصاة في كل حال وأنهم لا ينفكون عن المعصية ، لأنهم لا يكادون ينفكون عن ترك المندوب ، لا يقال : وصف تارك المندوب بأنه عاص مجاز والمجاز لا يطرد. لأنا نقول : لما سلمت كونه مجازا فالأصل عدمه وحينئذ يتم استدلال الخصم.
فأما قوله : أشرت إليه في أمر ولده بكذا فعصاني فإنا لا نسلم أن هذا الاستعمال مروي عن العرب ، وإن سلمناه لكنهم إنما يطلقون ذلك إذا جزموا على المستشير بأنه لا بد وأن يفعل ذلك الفعل ، وأنه لا يجوز الإخلال به وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلا ، وإن لم يكن الوجوب حاصلا. وذلك يدل على أن لفظ العصيان لا يجوز إطلاقه إلا عند تحقق الإيجاب لكن أجمعنا على أن الإيجاب من اللّه يقتضي الوجوب ، فلزم أن يكون إطلاق لفظ العصيان على آدم إنما كان لكونه تاركا للواجب.