وفى قوله (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) إشارة إلى أن عمى البصيرة والصمم عن المواعظ لم يكن للجميع بل كان للكثير منهم ، والله تعالى يعاقب الأمم بذنوبها إذا كثرت وشاعت فيها ، إذ العبرة بالغالب لا بالأفل النادر الذي لا يؤثر فى صلاح ولا فساد ومن ثم قال تعالى : «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً».
(وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) لنبيه وخاتم أنبيائه من الكيد والمكر وتدبير الإيقاع به وتأليب القبائل والشعوب المختلفة لتكون يدا واحدة للفتك به ، وما سبب ذلك إلا اتباعهم للهوى ، وأنهم عموا وصموا مرة أخرى فصاروا لا يبصرون ما جاء به من النور والهدى ولا يسمعون ما يتلوه عليهم من الآيات ، وسيعاقبهم الله على ذلك بمثل ما عاقبهم به من قبل وينكّل بهم أشد النكال ، ويذيقهم أنواع الوبال.
وبعد أن عدد قبائح اليهود ومخازيهم شرع يفصل قبائح النصارى ويبطل أقوالهم الفاسدة وآراءهم الزائفة ، فقال :
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) أي أقسم إن هؤلاء الذين ادّعوا أن الله هو المسيح بن مريم ـ قد كفروا وصلّوا ضلالا بعيدا ، إذ هم فى إطرائه ومدحه غلوا أشد من غلوّ اليهود فى الكفر به وتحقيره ، وقولهم عليه وعلى أمه الصدّيقة بهتانا عظيما ؛ وقد صارت هذه المقالة هى العقيدة الشائعة عندهم ، ومن عدل عنها عدّ مارقا من الدين فقالوا : إن الإله مركب من ثلاثة أصول يسمونها (الأقانيم الثلاثة) وهى الآب والابن وروح القدس فالمسيح هو الابن والله هو الآب وقد حل الآب فى الابن واتحد به فكون روح القدس ، وكل واحد من هذه الثلاثة عين الآخرين.
وخلاصة ذلك ـ الله هو المسيح ، والمسيح هو الله كما يزعمون.
ثم ذكر أن المسيح يكذبكم فى ذلك فحكى عنه :
(وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي والحال أن المسيح قال لهم ضد ما يقولون. فقد أمرهم بعبادة الله وحده ، معترفا بأنه ربه وربهم ، ودعا بنى إسرائيل الذين أرسل إليهم إلى عبادة الله وحده ، ولا يزال هذا الأمر محفوظا فى الأناجيل التي كتبت لبيان بعض سيرته وتاريخه ففى إنجيل يوحنا (وهذه هى الحياة الأبدية