ولما تغلغلت الوثنية فى جميع الأديان المعروفة وأفسدتها على أهلها ، أنزل الله لهداية البشر هذا النور المبين وهو القرآن ، فبين لمن يفهم لغته حقيقة التوحيد بالدلائل والبراهين الكونية والعقلية مع ضرب الأمثال وذكر شىء من القصص لكشف ما ران على هذه العقيدة من شهات المضلين وأوهام الضالين التي مزجتها بالشرك.
هذا البيان الذي جاء به القرآن لتقرير التوحيد واجتثاث جذور الوثنية لم يكن معهودا مثله من الحكماء ولا من الأنبياء ، فمن ثم وجب أن يكون من رب العالمين «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ».
والخلاصة ـ إن محمدا النبي الأمى صلى الله عليه وسلم كان برهانا على حقية دينه ، وكتابه القرآن أنزل من العلم الإلهى ولم يكن لعلمه الكسبي أن يأتى بمثله ، وأنزل نورا مبيّنا لجميع الناس ما هم فى حاجة إليه فى معاشهم ومعادهم ليتدبروا آياته ويسعدوا به فى حياتهم الدنيا وينالوا به الخير فى العقبى.
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) الاعتصام التمسك بما يعصم ويحفظ ، أي فأما الذين يعتصمون بهذا القرآن فيدخلهم الله فى رحمة خاصة منه لا يدخل فيها سواهم ، وفضل خاصّ لا يتفضل به على غيرهم ، ولكنه يختص من يشاء بما شاء من أنواعهما. وقال ابن عباس : الرحمة الجنة ، والفضل ما يتفضل به عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
(وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي ويهديهم طريقا قويما وهداية خاصة تبلّغهم السعادة فى الدنيا بالعزة والكرامة وفى الآخرة بالجنة والرضوان ، وهذا الصراط المستقيم لا يهدى إليه إلا الاعتصام بالقرآن الكريم واتباع سنة سيد المرسلين ، والمراد أنه يوقفهم ويثبّتهم على تلك الهداية إلى الصراط المستقيم.
وسكت عن القسم الآخر المقابل لهؤلاء المؤمنين المعتصمين للإيذان بأنه بعد ظهور البرهان لا ينبغى أن يوجد ، وإن وجد لا يؤبه له ولا يهتمّ بشأنه.