فقال معاوية : لا أُعفيك .
فقال ضرار : ـ
كان والله بعيد المدىٰ ـ أي عالي الهمّة ـ ، شديد القوى ، يقول فصلاً ، ويحكم عدلاً .
يتفجّر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه .
يستوحش من الدُّنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل ووحشته .
كان والله غزير العبرة ، طويل الفكرة ، يقلّب كفّه ، ويخاطب نفسه ، ويناجي ربّه .
يُعجبه من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ما جشُب .
كان والله فينا كأحدنا ، يدنينا إذا أتيناه ، ويُجيبنا إذا سألناه ، وكنّا مع دنوّه منّا ، وقُربنا منه لا نكلّمه لهيبته ، ولا نرفع عيننا إليه لعظمته .
فإن تبسّم فمن مثل اللؤلؤ المنظوم .
يعظّم أهل الدَّين ، ويحبّ المساكين .
لا يطمع القويّ في باطله ، ولا ييأس الفقير من عدله .
وأشهدُ بالله لقد رأيته في بعض مواقفه ، وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومه ، وهو قائمٌ في محرابه ، قابضٌ على لحيته ، يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، فكأنّي أسمعه وهو يقول :
يا دُنيا دنيّة أبيَ تعرّضتِ ؟ أم إليَّ تشوّقتِ ؟ هيهات هيهات غُرّي غيري ، لا حاجة لي فيك ، قد طلّقتك ثلاثاً ، لا رجعة لي فيها ، فعُمرك قصير ، وخطرك يسير ، وأملك حقير .
آهٍ آهٍ من قلّة الزاد ، وبُعد السفر ، ووحشة الطريق ، وعِظَم المورد .
فوكَفَت ـ أي سالت ـ دموع معاوية على لحيته ، فنشّفها بكمّه ، واختنق القوم بالبكاء .
ثمّ قال معاوية : كان والله أبو الحسن كذلك ، فكيف صبرك عنه يا ضرار ؟