فقال (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي نزل حقائق القرآن وأنواره على قلبك بالحقيقة متجلية لسرك ، مخيفة عن زورك ، فصرت مشاهدا لسر الله المودع في (الم) وهو الذي بين يدي (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) فصرت مصدقا له تصديق تحقيق لا تصديق تقليد فأفهم إذ لم تتعلم ، ولا تعلم أنك لا تفهم لأنه منطق الطير وأنت بعد بيضة لا من الطيارين ولا من السيارين. (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ) فلا تظنن يا محمد أن إنزال الكتب على الأنبياء كان كتنزيل القرآن بالحقيقة على قلبك كما قال : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) [الشورى : ٥٢] حتى صرت مكاشفا عند تجلي أنواره بأسراره ، وحقائق بيني وبينك لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل ، وإنما إنزال الكتب على الأنبياء كان بالصورة مكتوبة في صحائف وألواح يقرؤها كل قارئ ، ويستوي في هداها الأنبياء والأمم قاطبة (هُدىً لِلنَّاسِ) وكنت مخصوصا بالهداية عند تجلي أنوار القرآن بالتنزيل على قلبك كما قال : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [الشورى : ٥٢] (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) الذي يفرق بين تنزيله على قلبك وبين إنزال الكتب على صورة الأنبياء ، ويفرق بين تعليمك القرآن وبين تعليمهم الكتب. فإن كانوا يتدارسون الكتب فأنت تتخلق بالقرآن ، فشتان بين نبي يجيء وهو بذاته نور ومعه كتاب (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) [المائدة : ١٥] وبين نبى يجىء ومعه نور من الكتاب (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) [الأنعام : ٩١] وشتان بين نبي تشرف بكتابة الموعظة له في الألواح (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً) [الأعراف : ١٤٥] وبين نبي تشرف أمته بكتابة الإيمان لهم في قلوبهم (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [المجادلة : ٢٢] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) يسترون بحجب الغفلات وتتبع الشهوات قلوبهم فتعمى عن مشاهدة هذه الآيات البينات (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) من هذا العمى والحرمان وهم في خسران من الركون إلى هذا النقصان (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) يعز أهل الغرام بنيل المرام وينتقم من أهل السلوة بحجاب العزة. ثم أخبر تعالى عن كمال علمه بقوله (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) وكيف يخفى وإنه (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ) عن نقص الأحكام (الْحَكِيمُ) فيما يجري من الأزل إلى الأبد وجفت به الأقلام. وفي الآية إشارة إلى أنه إذا سقطت من صلب ولاية رجل من رجال الحق نطفة إرادة في رحم قلب مريد صادق يستسلم لتصرفات ولاية الشيخ وهو بمثابة ملك الأرحام ، ويضبط المريد أحواله الظاهرة والباطنة على وفق أمر الشيخ ويختار الخلوة والعزلة لئلا يصدر منه حركة عنيفة أو يجد رائحة غريبة يلزم منه سقوط النطفة وفسادها ، ويقعد بأمر الشيخ وتدبيره فالله تعالى بتصرف ولاية الشيخ