التفصيل والترتيب موكول إلى قضية العقل فافهم والله تعالى أعلم. ومعنى بث فرق ونشر. وإنما خص وصف الكثرة بالرجال اعتمادا على الفهم ، ولأن شهرة الرجال أتم فكانت كثرتهم أظهر. وفيه تنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والخروج ، واللائق بحال النسوان الاختفاء والخمول. وإنما يقل الرجال والنساء معرفتين لئلا يلزم كونهما مبثوثين من نفسهما ، ثم إن هذا البث معناه محمول على ظاهره عند من يرى أن جميع الأشخاص البشرية كانوا كالذر مجتمعين في صلب آدم ، وأما عند من ينكر ذلك فالمراد أنه بث منهما أولادهما ، ومن أولادهما جمعا آخرين وهلم جرا ، فأضيف الكل إليهما على سبيل المجاز. (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) من قرأ بالنصب فللعطف على اسم الله أي واتقوا حق الأرحام فلا تقطعوها وهو اختيار أكثر الأئمة كمجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد والفراء والزجاج. وأما للعطف على محل الجار والمجرور كقوله :
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
وهو اختيار أبى علي الفارسي وعلي بن عيسى. وقيل : منصوب بالإغراء أي والأرحام فاحفظوها وصلوها. ومن قرأ بالجر فلأجل العطف على الضمير المجرور في (بِهِ) وهذا وإن كان مستنكرا عند النحاة بدون إعادة الخافض لأن الضمير المتصل من تتمة ما قبله ولا سيما المجرور فأشبه العطف على بعض الكلمة ، إلا أن قراءة حمزة مما ثبت بالتواتر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلا يجوز الطعن فيها لقياسات نحوية واهية كبيت العنكبوت. وقد طعن الزجاج فيها من جهة أخرى وهي أنها تقتضي جواز الحلف بالأرحام وقد قال النبي صلىاللهعليهوسلم «لا تحلفوا بآبائكم» (١). والجواب أن المنهي عنه هو الحلف بالآباء وهاهنا حلف أولا بالله ثم قرن به الرحم فأين أحدهما من الآخر؟ ولئن سلمنا أن الحلف بالرحم أيضا منهي عنه لكن لا نسلم أنه منهي عنه مطلقا ، وإنما المنهي عنه ما حلف به على سبيل التعظيم ، وأما الحلف بطريق التأكيد فلا بأس بها ، ولهذا جاء في الحديث «أفلح وأبيه إن صدق» (٢). سلمنا أنها منهي عنها مطلقا لكن المراد هاهنا حكاية ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من قولهم في الاستعطاف والتساؤل وهو سؤال البعض البعض : أسألك بالله وبالرحم ، وأنشدك الله
__________________
(١) رواه البخاري في كتاب مناقب الأنصار باب ٢٦. مسلم في كتاب الأيمان حديث ٣. الترمذي في كتاب النذور باب ٨ ، ٩. النسائي في كتاب الأيمان باب ٤ ، ٥ ، ٦. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب ٢. الموطأ في كتاب النذور حديث ١٤. أحمد في مسنده (٢ / ٧ ، ٨ ، ٢٠ ، ٧٦).
(٢) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ٩. بلفظ «دخل الجنة وأبيه إن صدق».