كل محنة وبلية وشدة فهي فتنة. ثم إن الشافعي قال : القصر رخصة كسائر رخص السفر فإن شاء أتم وإن شاء قصر لأن قوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) مشعر بعدم الوجوب ، ولما روي أن عائشة رضياللهعنها قالت : اعتمرت مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم من المدينة إلى مكة ، فلما قدمت مكة قلت : يا رسول الله بأبي وأمي قصرت. وأتممت وصمت وأفطرت. فقال : أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ. وكان عثمان يتم ويقصر وما ظهر إنكار من الصحابة عليه. وقال أبو حنيفة : القصر واجب فإنّ صلى المسافر أربعا ولم يقعد في الثنتين فسدت صلاته لما روي عن ابن عباس قال : كان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا خرج مسافرا صلى ركعتين ، ولقوله صلىاللهعليهوسلم : «فاقبلوا صدقته» (١) وظاهر الأمر للوجوب. وعن عائشة : أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر. قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فما تصنع بقوله : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا) قلت : كأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر فنفي عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه. وأجيب بأن هذا الاحتمال إنما يخطر ببالهم إذا قال الشارع لهم رخصت لكم في هذا القصر ، أما إذا قال أوجبت عليكم هذا القصر وحرمت عليكم الإتمام وجعلته مفسدا لصلاتكم فلا يخطر هذا الاحتمال ببال عاقل. وحديث ابن عباس إنما يدل على كون القصر مشروعا لا على أن الإتمام غير جائز ، وخبر عائشة لا تعاضده الآية لأن تقرير الصلاة على ركعتين لا يطلق عليه لفظ القصر. ثم إن بعض الظاهريين زعموا أن قليل السفر وكثيره سواء في القصر لإطلاق قوله : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) وجمهور الفقهاء على أن السفر المرخص مقدر بمقدار مخصوص ، فعن الأوزاعي والزهري ويروى عن عمر أن القصر في يوم تام ، وعن ابن عباس إذا زاد على يوم وليلة قصر. وقال أنس بن مالك : المعتبر خمسة فراسخ. وقال الحسن : مسيرة ليلتين. وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير : من الكوفة إلى المدائن وهو ثلاثة أيام. وهو قول أبي حنيفة قياسا على مدة جواز المسح للمسافر ، وأما أصحاب الشافعي فإنهم عوّلوا على ما روي عن مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان. والمراد بالبريد أربعة فراسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، هو الذي قدر أميال البادية كل ميل اثنا عشر ألف قدم وهي أربعة
__________________
(١) رواه مسلم في كتاب المسافرين حديث ٤. أبو داود في كتاب السفر باب ١. الترمذي في كتاب تفسير سورة النساء باب ٢٠. النسائي في كتاب الخوف باب ١. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب ٧٣. الدارمي في كتاب الصلاة باب ١٧٩. أحمد في مسنده (١ / ٢٥ ، ٣٦) ، (٦ / ٦٣).