ومما يؤيده ما حكي عن الأخفش ( ت : ٢١٥ هـ ) :
« إن الحروف مباني كتب الله المنزلة بالألسنة المختلفة ، وأصول كلام الأمم » (١).
فهي أصل الكلام العربي في هذا الكتاب العربي المبين الذي أعجز الأولين والآخرين من العرب وغير العرب ، على أنه مركب من جنس حروف العرب ، وهذا أدلّ على الإعجاز باعتباره مشاكلاً لكلامهم ، وعلى سنن تراكيبهم ، فعلم بالضرورة أنه كلام الله تعالى ، ولا يعني الاعتداد بهذا الملحظ من القول في جملة الفوائد المترتبة عليه ، أن ندع مضامين الأقوال السابقة ، وقيمتها الفنية ، فهي جزء لا يتجزأ من غرر الإفادات القيمة في الموضوع ، على أن القول بالمتشابه هو اسلم الوجوه فيما يخيل إليّ ، ولكن هذا لا يعني عدم الكشف عن الأسرار الهامشية ، والنكت الجانبية التي لا تتعلق بالمتشابه من القول ، بل ترجع إليه بالعائدية ، فيبقى المتشابه متشابها ، والمحكم من القرآن محكما ، ولا يمنع هذا وذاك من بيان حكم المتشابه ، وفضل مزاياه ، فيبدو في ظلاله ألق نستنير به ، أو شعاع نهتدي بأضوائه ، فنلمس البعد الصوتي متوافراً في هذه الحروف ، والرصد الإعجازي قائماُ في هيكلها العام وإن بقي السر ماثلاً ، والمعنى الحقيقي محجبوباً ، والمراد منها في علم الغيب ، ولكن الحكمة قد تلتمس ، والثمرة قد تقتطف ، وقد أورد ابن كثير ( ت : ٧٧٤ هـ ) حاكياً : « إنما ذكرت هذه الحروف في أوئل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجازالقرآن ، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله ، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها ، وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين ، وحكى القرطبي عن الفرّاء وقطرب نحو هذا ، وقرّره الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر ، وإليه ذهب ابن تيمية وأبو العجاج المزي » (٢).
والذي يظهر مما تقدم أن القول بأن هذه الحروف ـ في بعض حكمها ـ إشارات إعجازية ليس من ابتكارنا ، ولا هو أمر نحن ابتدعناه ، وإنما سبق
__________________
(١) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان في تفسير القرآن : ١|٣٣.
(٢) ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم : ١|٣٦.