فأما الحرف فالقول فيه وفيما كان من لفظه : أنّ (ح ر ف) أينما وقعت في الكلام يراد بها حدّ الشيء وحدّته ، من ذلك حرف الشيء إنما هو حدّه وناحيته ، وطعام حرّيف : يراد حدّته ، ورجل محارف ، أي محدود عن الكسب والخير ، ويقال أيضا فيه : مجارف (١) بالجيم ، ومثله مجرّف ، ومجلّف (٢) ، كأنّ الخير قد جرّف عنه وجلّف (٣) ، كما يجلّف القلم ونحوه. وقولهم : «انحرف فلان عني» : من هذا أيضا ، كأنّه جعل بيني وبينه حدا بالبعد والانعدال (٤).
وقال أبو عبيدة في قوله عزّ اسمه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) [الحج : ١١](٥) أي لا يدوم ، تقول : إنما أنت على حرف ، أي لا أثق بك. وهذا راجع إلى ما قدمناه ، لأنّ تأويله أنّه قلق في دينه ، على غير ثبات ولا طمأنينة ولا استحكام بصيرة (٦) ، فكأنه معتمد على حرف دينه ، غير واسط فيه ، كالذي هو على حرف الجبل ونحوه.
وقال أحمد بن يحيى : أي على شكّ. وهذا هو المعنى الأول ، ومن هنا سمّيت حروف المعجم حروفا ، وذلك أنّ الحرف حدّ منقطع الصوت وغايته وطرفه ، كحرف الجبل ونحوه.
__________________
(١) مجارف : ذهب بالشيء أو ابتعد به. لسان العرب (١ / ٦٠١). مادة (ج. ر. ف).
(٢) مجلف : جلفه أي قشره وكشطه وقلعه واستأصله. لسان (١ / ٦٦٠) مادة (ج. ل. ف).
(٣) جرف عنه وجلف : بينهما جناس ناقص يؤثر في السمع ويعطي جرسا موسيقيا يؤثر على تحسين الفكرة ويوضحها.
(٤) الانعدال : التنحي والانصراف عن الشيء. لسان العرب (٤ / ٢٨٤٠) مادة (عدل).
(٥) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) : أي على شك. والمقصود أنه لا يداوم على عبادته لله لعدم ثقته أو شكه ، وتأويله أنه قلق على دينه. واستخدام الحرف هنا كشاهد يدل على استخدام الجزء ويقصد به الكل ذلك أن الحرف في كل شيء طرفه وجانبه ، وفلان على حرف أي على ناحية وجانب من رأيه إذا رأى شيئا لا يعجبه عدل عنه. لسان العرب (٢ / ٨٣٧). مادة (ح. ر. ف). والشاهد فيه : كلمة حرف. إعراب الشاهد : حرف : اسم مجرور بحرف الجر وعلامة الجر الكسرة.
(٦) بصيرة : قوة الإدراك والفطنة والعلم والخبرة والحجة ، وجمعها بصائر. لسان العرب (١ / ٢٩١)