وقد بين أبو عثمان الجاحظ هذه الحاجة في كتاب الحيوان ، وأجاد في بيانها. قال : «ومن هذه الجهة (١) عرفوا الآثار في الأرض والرمل ، وعرفوا الأنواء ونجوم الاهتداء. لأن كل من كان بالصحاصح الأماليس ـ حيث لا أمارة ، ولا هادي ، مع حاجته إلى بعد الشقة ـ مضطر إلى التماس ما ينجيه ويؤديه. ولحاجته إلى الغيث ، وفراره من الجدب ، وضنه بالحياة ، اضطرته الحاجة إلى تعرف شأن الغيث. ولأنه في كل حال يرى السماء ، وما يجري فيها من كوكب ، ويرى التعاقب بينها ، والنجوم الثوابت ، وما يسير منها مجتمعا ، وما يسير منها فاردا ، وما يكون منها راجعا ومستقيما» (٢).
وكل ذلك دفع العرب ، منذ القديم ، أن يرجعوا البصر في السماء ، وينظروا فيها إلى النجوم ، ويرقبوا الشمس والقمر ، ليعلموا علم حركاتها ، ومواقع طلوعها وغروبها. فعرفوا من ذلك ، على مر الزمن ، أمورا كثيرة ، وربطوا بينها وبين حوادث الطبيعة ، وجعلوها مواقيت لها. حتى أنهم نظموا لحركة القمر وسيره في السماء منازل معروفة محدودة ، يجري القمر بينها في نظام معروف محدود. وراحوا ينسبون حوادث الطبيعة إلى طلوع هذه المنازل وغروبها وقت الفجر (٣). وعرفوا أيضا عددا وافرا من الكواكب الثابتة مع مطالعها ومغاربها. وجعلوا لها أشكالا وصورا. وسموها بأسماء خاصة ترد كثيرا في أشعارهم وأسجاعهم ، مثل الثريا والشعرى وسهيل والدبران والعيوق والفرقدين والسماكين وكشفوا أيضا أمر الكواكب السيارة ، وميزوها عن الكواكب الثابتة. وبذلك نشأ عندهم علم الأنواء والأزمنة.
__________________
(١) أي جهة الحاجة.
(٢) كتاب الحيوان ٦ / ٣٠. وانظر الآثار الباقية للبيروني ٣٣٢.
(٣) كتاب الأنواء لابن قتيبة ٧.