أنا؟ ثم أفاق فقال له : زدنى رحمك الله ، فقال : يا أمير المؤمنين ، بلغنى أن عاملا لعمر ابن عبد العزيز شكا إليه ، فكتب إليه عمر : يا أخى ، اذكر طول شهر أهل النار فى النار ، مع خلود الأبد ، وإياك أن ينصرف بك من عند الله ، فيكون آخر العهد بك وانقطاع الرجاء.
قال : فلما قرأ الكتاب ، طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز ، فقال له : ما أقدمك؟ قال : خلعت قلبى بكتابك ، لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله عزوجل ، فبكى هارون بكاء شديدا ، ثم قال : زدنى يرحمك الله ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن العباس عم المصطفىصلىاللهعليهوسلم ، جاء إلى النبى صلىاللهعليهوسلم ، فقال : يا رسول الله ، أمرنى على إمارة ، فقال له النبىصلىاللهعليهوسلم : «إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة ، فإن استطعت أن لا تكون أميرا فافعل».
فبكى هارون بكاء شديدا ، فقال : زدنى رحمك الله ، فقال : يا حسن الوجه ، أنت الذى يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة ، فإن استطعت أن تقى هذا الوجه من النار فافعل ، وإياك أن تصبح وتمسى وفى قلبك غش لأحد من رعيتك ، فإن النبىصلىاللهعليهوسلم قال : «من أصبح لهم غاشا لم يرح رائحة الجنة».
فبكى هارون وقال له : عليك دين؟ قال : نعم ، دين لربّى لم يحاسبنى عليه ، فالويل لى إن سألنى ، والويل لى إن حاسبنى ، والويل لى إن لم ألهم حجّتى ، قال : إنما أعنى من دين العيال. قال : إن ربى لم يأمرنى بهذا ، أمرنى أن أصدق وعده وأطيع أمره ، فقال جل وعز : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ.) [الذاريات : ٥٦] فقال له : هذه ألف دينار ، خذها فأنفقها على عيالك ، وتقو بها على عبادة ربك ، فقال : سبحان الله! أنا أدلك على طريق النجاة ، وأنت تكافئنى بمثل هذا! سلمك الله ووفقك ، ثم صمت ولم يكلمنا ، فخرجنا من عنده.
فلما صرنا على الباب ، قال هارون : أيا عباس ، إذا دللتنى على رجل ، فدلنى على مثل هذا ، هذا سيد المسلمين ، فدخلت عليه امرأة من نسائه فقالت : يا هذا ، قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال ، فلو قبلت هذا المال فتفرحنا به ، فقال : إنما مثلى ومثلكم ، كمثل قوم لهم بعير يأكلون من كسبه ، فلما كبر نحروه ، فأكلوا لحمه ، فلما سمع هارون هذا الكلام قال : ندخل ، فعسى أن يقبل المال! فلما علم الفضيل ، خرج فجلس فى السطح على باب الغرفة ، فجاء هارون فجلس إلى جنبه ، فجعل يكلمه فلا يجيبه ، فبينا نحن كذلك ، خرجت جارية سوداء فقالت : يا هذا ، قد آذيت الشيخ منذ الليلة ، فانصرف رحمك الله ، فانصرفنا.