ما يرون. ومما أثبت هذه الأصول بين أشراف لبنان أن الأرستوقراطية فيهم كانت ثابتة لا تتحول عنهم لفقر أو غيره. ويغلب على الظن أنهم جمعوا في عاداتهم بين العادات العربية ، وشيء من العادات الغربية اكتسبوها في مخالطتهم الصليبيين.
وفي الحق أن لبنان القديم وليد أمرائه من المعنيين والتنوخيين والشهابيين واللمعيين والأرسلانيين وآل علم الدين. وقد أقر هذه العادات المشايخ الجنبلاطية والعمادية والنكدية والتلاحقة والملكية وبنو العيد ، وفي المسيحيين آل الخازن والدحداح والضاهر وحبيش وغيرهم. وأخذت تحتفظ كل طبقة بأصولها وعاداتها ، لا يباح لأهل طبقة أن يتزوجوا من أهل طبقة أخرى ، ولا أن يختلطوا بهم الاختلاط اللازم. وكان الجلال والوقار يغلبان على أهل كل طبقة. ويعدون من أسباب السقوط أن يسفّ ابن أسرة من أسر الأمراء أو المقدمين أو المشايخ فيصهر إلى غير أهل طبقته ، ولذلك غلب ضعف الأجسام على بعض هذه الطبقات ، وتأصلت فيها بالوراثة الأمراض العضالة لخروجهم عن الطبيعة في الزواج.
وكانت لهم عادات نشّأهم عليها حكامهم في السلام والجلوس والخطاب. وهم يغالون في الحرص على كرامتهم ، ويعد أكبر أعيانهم من الشرف أن يكتب إليه الحاكم ويلقبه بالأخ العزيز ويوقع له بالمحب المخلص. ويكتب الأمير الى الطبقة الثانية من الشعب وهي طبقة المشايخ «عزيزنا» أو «أعز المحبين» أو «حضرة عزيزنا» أو «جناب» بدل «حضرة». وإذا كان طبق الورق صغيرا أو كبيرا ، أو كان توقيع الحاكم في أسفل الكتابة أو في أعلاه فإن لكل ذلك معاني عندهم. والغالب أن القوم كانوا لقلة أشغالهم يتسلون بمثل هذه التافهات ، ويضعون لها قواعد من عند أنفسهم ، ويتنافسون في رضا الحاكم والوصول إلى مجلسه وتقبيل يده وثوبه ، تأصل هذا الداء فيهم إلى العصر الأخير ، فكان من كتب له هذا الشرف تناقل خبره أهل بيته خلفا عن سلف وعدوه في مفاخرهم. وقد كثر فيهم حب الظهور حتى إن المرء ليبيع بستانه وداره ويبذل ماله لينال عملا صغيرا في الحكومة أو ليكتسي الحرير هو وعياله ويتعاظم على أهل قريته. ومنهم من ابتعدوا