وَآخِرِنا)(١) ـ يعني تكون لنا عظة (وَآيَةً مِنْكَ)(٢) يقول : علامة بيننا وبينك ، (وَارْزُقْنا)(٣) عليها طعاما نأكله ، وارزقنا (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(٤) فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين : غمامة من فوقها وأخرى من تحتها تهوي منقضّة في الهواء ، والناس ينظرون إليها ، فأوحى الله تعالى : يا عيسى هذه المائدة ، فمن كفر بعد ذلك (مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ)(٥) فبلّغ عيسى قومه فقالوا : نعم ، فقال الله : يا عيسى إن كفروا أخذتهم بالشّرط (٦) ، ونزلت المائدة وعيسى يبكي ويقول : إلهي اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا ، كم أسألك من العجائب فتعطيني ، إلهي أعوذ بك أن يكون نزولها عذابا وغضبا ورجزا ، وأسألك أن تجعلها عافية وسلامة ، ولا تجعلها مثلة ولا فتنة ، فما زال يدعو ويتضرع حتى استقرت بين يدي عيسى ، والناس حوله يجدون ريح طيبها لم يجدوا ريحا قط أطيب منها ، فخرّ عيسى ساجدا ، وسجد الحواريّون معه.
وبلغ ذلك اليهود ، فأقبلوا مغمومين مكروبين ، فنظروا إلى أمر معجب ، فإذا سفرة مغطاة بمنديل ، فرفع عيسى رأسه واستوى قاعدا ، فقال : لينظر من كان خيرنا وأوثقنا بنفسه ، وأحسننا عملا (٧) عند ربه ، فليكشف عن هذه الآية ، حتى ننظر إليها ونأكل منها ، ونحمد الله عليها ، فقال الحواريون : أنت أولانا وأحقّنا يا روح الله ، فقام عيسى فتوضأ وضوءا حسنا ، وصلّى صلاة حسنة (٨) ، ودعا دعاء كثيرا ، وبكى بكاء طويلا ، ثم جلس عند السفرة ثم قال : بسم الله خير الرازقين ، وكشف المنديل ، فإذا سمكة مشوية (٩) وليس عليها فلوس (١٠) ولا فيها شوك ، يسيل السمن منها سيلانا ، وقد نضد حولها من ألوان البقول إلّا الكرّاث ، وخلّ عند رأسها وملح عند ذنبها ، وخمسة أرغفة على كلّ رغيف زيتون ، وخمس رمانات وتميرات ، قال : فقال شمعون ـ وهو رأس الحواريين ـ يا روح الله وكلمته! أمن طعام الدنيا أم من طعام الجنّة (١١)؟ فقال عيسى : ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا (١٢) ، قال : فقال : لا وإله بني إسرائيل ما
__________________
(١ و ٢ و ٣ و ٤) سورة المائدة ، الآية : ١١٤.
(٥) سورة المائدة ، الآية : ١١٥.
(٦) في تفسير ابن كثير ٢ / ٦٨٣ بالشروط التي أخذها الله عليهم.
(٧) في تفسير ابن كثير : وأحسننا بلاء.
(٨) تفسير ابن كثير : فصلى كذلك ركعات.
(٩) تفسير ابن كثير : فإذا هو عليها بسمكة ضخمة مشوية.
(١٠) الفلوس : القشور التي على ظهر السمكة ، وفي تفسير ابن كثير : بواسير.
(١١) كذا بالأصل ، وفي المختصر : طعام الآخرة.
(١٢) في تفسير ابن كثير : أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الآية.