الشيء فإذا أعطيتموه كرهتموه ، ما أخوفني أن تعبدوا هذه السمكة (١) ، قال : عودي كما كنت بإذن الله ، قال : فعادت مشوية في حالها ، قال : كن أنت يا روح الله أوّل من يأكل ثم نأكل بعد ، قال عيسى : معاذ الله ، بل يأكل منها من طلبها وسألها.
ففرق الحواريون أن تكون إنّما أنزلت سخطة فيها مثلة ، فلم يأكلوا ، ودعا لها عيسى أهل الفاقة والزّمانة من العميان ، والمجذّمين ، والبرص ، والمقعدين ، وأصحاب الماء الأصفر ، والمجانين ، والمختلّين قال : كلوا من رزق الله ربّكم ، ودعوة نبيّكم ، فإنّه رزق ربكم ، وتكون المهانة لكم والبلاء لغيركم ، واذكروا اسم الله وكلوا ، ففعلوا فصدر عن تلك السمكة والأرغفة والرّمانات والبقول ألف وثلاثمائة رجل وامرأة بين فقير جائع ، وزمن ناقه رغيب (٢) ، كلهم شبعان يتجشّأ ، ونظر عيسى فإذا ما عليها كهيئته حين نزلت من السماء ، ورفعت السفرة إلى السماء وهم ينظرون إليها ، واستغنى كلّ فقير أكل منها يومئذ ، فلم يزل غنيا حتى مات ، وبرئ كلّ زمن من زمانته ، فلم يزل حتى مات ، وندم الحواريون وسائر الناس ممن أبى أن يأكل منها حسرة ، فشابت منها أشفارهم ، قال : فكانت إذا نزلت بعد ذلك أقبلوا إليها صورا من كلّ مكان يسعون يركب بعضهم بعضا ، الأغنياء والفقراء ، والرجال والنساء ، والضعفاء والأشدّاء ، والصغار الكبار ، والأصحّاء والمرضى ، فركب بعضهم بعضا ، فلما رأى عيسى بن مريم ذلك جعلها نوبا بينهم ، قال : وكانت تنزل غبّا يوما ولا تنزل يوما ، كناقة ثمود ، ترعى يوما وترد يوما ، فلبثت بذلك أربعين صباحا تغبّ يوما وتنزل يوما يؤكل منها حتى إذا فاء الفيء طارت صعدا ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم ، فأوحى الله إلى عيسى أن اجعل مائدتي رزقا لليتامى والزّمنى دون الأغنياء من الناس ، فلمّا فعل ذلك بهم عظم ذلك على الأغنياء ، وأذاعوا القبيح حتى شكوا وشككوا فيه الناس ، فوقعت الفتنة في قلوب المرتدين ، قال قائلهم : يا روح الله وكلمته : إنّ المائدة لحقّ أنها لتنزل من عند الله؟ قال عيسى : ويحكم هلكتم ، سروا للعذاب إن لم يرحمكم الله ، فأوحى الله تعالى إلى عيسى : إنّي آخذ بشرطي من المكذّبين ، قد اشترطت عليهم أنّي معذّب من كفر منهم (عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ)(٣) بعد نزولها ، (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
__________________
(١) في تفسير ابن كثير : ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون.
(٢) الأصل : رغيبا.
(٣) سورة المائدة ، الآية : ١١٥.