سالت (١) الدموع على لحيته وجعلت تقطر على صدره وقال : اللهم (أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) تكون عطية منك لنا ، علامة منك بيننا وبينك ، (وَارْزُقْنا) عليها طعاما نأكله (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(٢) قال : فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين : غمامة فوقها ، وغمامة تحتها ، وهم ينظرون إليها تهوي منقضّة في الهواء ، وعيسى يبكي ويقول : اجعلنا لك من الشاكرين ، إلهي اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا ، إلهي كم أسألك من العجائب فتعطيني ، اللهمّ أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضبا ورجزا ، اللهمّ اجعلها عافية وسلامة ، ولا تجعلها مثلة ولا فتنة ، حتى استقرت بين يدي عيسى والناس حوله يجدون ريحا طيبة لم يجدوا مثلها ، وخرّ عيسى ساجدا لله ، وخرّ الحواريون معه.
فبلغ اليهود ذلك ، فأقبلوا عتوا وكفرا ينظرون ، فرأوا أمرا عجيبا ، وإذا منديل مغطّى على السفرة ، وجاء عيسى فجلس يقول : أجرؤنا وأوثقنا بنفسه وأحسننا عملا عند ربه ، فليكشف عن هذه الآية ، حتى ننظر ونأكل ونسمّي باسم ربنا ونحمد إلهنا ، قال الحواريون : أنت أولى بذلك يا روح الله وكلمته ، قال : فتوضّأ عيسى وضوءا حديثا وصلّى صلاة جديدة ، ودعا ربّه دعاء كثيرا ، وبكى بكاء طويلا ، ثم قام حتى جلس عند السفرة ، إذا سمكة مشوية ليس عليها فلوس ، وليس لها شوك ، تسيل سيلا وقد نصب حولها من البقول وإذا عند رأسها خلّ ، وعند ذنبها ملح وخمسة أرغفة على كلّ منها زيتون ، وخمس رمانات ، وخمس تمرات ، قال شمعون رأس الحواريين : يا روح الله ، أمن طعام الدنيا أو من طعام الجنّة؟ فقال عيسى : أوما استيقنتم؟ ما أخوفني أن تعاقبوا ، قال : لا وإله بني إسرائيل ما أردت بما سألت سوءا يا ابن الصّدّيقة ، قال : نزلت وما عليها من السماء ، ليس شيء مما ترون عليها من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ، وهي وما عليها شيء ابتدعه الله تعالى بالقدرة العالية ، إنّما قال : كن فكان ، فكلوا مما سألتم ، واحمدوا عليه ربّكم يمدّكم ويزدكم فإنه القادر البديع لما يشاء إذا شاء يقول له : كن فيكون ، قالوا : يا روح الله وكلمته ، إن أريتنا اليوم آية من هذه السمكة (٣) ، فقال عيسى : يا سمكة أحيي بإذن الله ، فاضطربت السمكة طرّية تدور عيناها ، لها بصيص ، تلمّظ بفيها كما يتلمّظ السبع ، وعاد عليها فلوسها ، ففزع القوم ، فقال عيسى : ما لكم تسألون
__________________
(١) الأصل : سال.
(٢) سورة المائدة ، الآية : ١١٤.
(٣) زيد في تفسير ابن كثير ٢ / ٦٨٤ : فقال عيسى : سبحان الله ، أما اكتفيتم بما رأيتم من هذه الآية حتى فيها آية أخرى.