الحال عليه اليوم في المدينتين المقدستين ، لم يكونوا يجرؤون على الظهور بملابسهم الأوروبية ، وإن ماتوا فيها فإن رفاتهم كان يحمل إلى جزيرة صغيرة في مرسى جدة لكي لا يدنس الأراضي المقدسة (١).
لقد تغيرت الأمور اليوم : فالمسيحيون يتمتعون اليوم في جدة بكامل حريتهم ، وبأمن يوازي ما يجدونه في مصر وإستانبول. لقد تجولت في أنحاء المدينة كلها ، في كل أوقات النهار والليل ، وحدي في غالب الأحيان ، ولم يتعرض لي أحد بشتم قط ، ووجدت من الناس كلهم لطفا وفضلا (٢). ولم يزعجني إلّا المتسولون الذين ينتشرون في كل أحياء المدينة ، ويكادون جميعا يكونون من الهنود ، قدموا من أوطانهم للحج ، وتقطعت بهم سبل العودة لنقص في المال ، ولما لم يكن لهم أي موارد ، فإنهم ظلوا هنا عالة على الناس. هناك كثير من الحجاج المصريين والنوبيين ، وخصوصا من سود السودان ، وهم كالهنود في الفقر ، ولكنهم يعملون بشجاعة لكسب المبالغ البسيطة الضرورية لعودتهم إلى مسقط رأسهم ، أما الهنود الذين هم أكثر بلادة وكسلا فهم يحبون / ١٢٧ / العيش على الهبات ، ويفضلون المنفى الأبدي على
__________________
ـ انظر : أحمد بن إبراهيم الغزاوي ، شذرات الذهب ، جدة ، دار المنهل ، ١٩٨٧ م ، ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ؛ وانظر : صفحات من تاريخ مكة المكرمة ، سنوك هور خرونيه ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ٤١٩.
(١) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ١٩١ ـ ١٩٢. ونقل المترجمان في الحاشية (٢) ص (١٩١) ما جاء في كتاب محمد علي المغربي : ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز ، ص ١٧١ «وكانت في مدينة جدة مقبرة للنصارى وما تزال موجودة حتى الآن ... ويبدو أن هذه المقبرة أقيمت في العهد العثماني لدفن الأجانب الذين يموتون في جدة ... وهي قائمة حتى الآن كما ذكرنا في جنوب جدة قرب السوق الجنوبية ، ولكنها غير مستعملة إطلاقا». ويقول المترجمان : ولا نعرف إذا كانت المقبرة التي ذكرها المؤلف هي نفس المقبرة التي يصفها المغربي. وقد تحدث بوركهارت في غير موضع من رحلاته عن أوضاع المسيحيين في جدة انظر : ص ٢٦ ، ١٩٠ ، ١٩١ ، ١٩٢.
(٢) انظر تحليلات بوركهارت بهذا الخصوص في رحلاته ، ص ١٩٠.