كانت غرفتي في الطابق الثاني ، نقبت لها نافذة ضخمة ، مغلقة ، أو من المفترض أنها كذلك ، بنظام بالغ التعقيد هو عبارة عن مصاريع للضوء تسمح بدخول الهواء والغبار والشمس والعصافير ؛ لأن الغرفة كانت مليئة بأعشاشها. هاكم ما كنت أراه وأسمعه عبر تلك النافذة في الأيام والليالي كلها. بادىء ذي بدء ، كنت أرى البحر يمتد امتدادا شاسعا ليلامس السماء في آخر حدود الأفق ؛ وكان هناك قليل من الأشرعة التي ترصع هذا الحقل الأزرق ، ولكنّ عري ذلك البحر كان يزيد من جلاله ، ويجعل الفكر مستغرقا في هواجس المطلق التي لا يمكن الحديث عن كنهها.
وإذا عدت إلى الأرض فإنني كنت أرى من عل القسم الشمالي من المدينة كله ؛ السوق الذي كانت تتناهى إليّ منه أصوات الناس والجمال ، وكنت أرى أيضا السطوح التي كنت ألمح عليها في الليل خيال النساء ، وكنت أرى أخيرا عددا من المساجد التي ترتفع مناراتها. وكان على بعد خطوات مني مسجد صغير ، وأنيق ، وله / ١٣٦ / رواقان خارجيان ، وكان له مؤذن عجوز ، يصدح بالأذان خمس مرات في اليوم : الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء ؛ وينبغي على المسلم أن يتوضأ لكل صلاة ، بغسل وجهه ، وما وراء أذنيه ، ويديه حتى المرفقين ورجليه وأماكن أخرى ، ومما يؤسف له أن صوت جاري المؤذن كان حادا ومرتعشا ، وفهمت عند سماعه ، لماذا جاء أحد سكان القاهرة القديمة بمؤذن ذي صوت جميل ، وكان يخصص له راتبا لكي يظل يؤذن من المنارة نفسها.
وكان بالقرب من المسجد منزل يتصل به ، ويسكنه العلماء ، وكان يقام فيه كل ليلة ، في وقت متأخر ، طقوس دينية صاخبة يتخللها أغان وصلوات ومواعظ ، وكان ذلك مترافقا بالموسيقى ؛ وأيّ موسيقى! وكان يرافقها الناي والطبلة. وكانت تقام بالقرب منه ، حفلات أخرى ، من طبيعة أخرى ، مختلفة كل الاختلاف : إنهم أفارقة سودانيون ، عائدون من الحج الأخير إلى مكة المكرمة ، يقضون المساء كله يغنون ويرقصون ، أغاني ورقصا متوحشين ، يذهبان بالفكر بعيدا إلى أعماق القارة الإفريقية.