يصنع قصيدة أو ينشىء رسالة ـ وقد فاته هذا العلم ـ مزج الصفو بالكدر ... واستعمل الوحشيّ العكر ، فجعل نفسه مهزأة للجاهل وعبرة للعاقل ... وإذا أراد أيضا تصنيف كلام منثور أو تأليف شعر منظوم ، وتخطى هذا العلم ، ساء اختياره له ، وقبحت آثاره فيه ، فأخذ المرذول وترك الجيد المقبول ، فدل على قصور فهمه ، وتأخر معرفته وعلمه» (١).
على هدى من هذه التوطئة التي توضح الهدفين اللذين كانا ـ ولم يزالا ـ منشودين من وراء الدراسات البلاغية نتقدم إلى بيان أثر علم المعاني في بلاغة الكلام.
ويمكن القول من البدء أن الأثر الذي يحدثه علم المعاني في بلاغة القول يتولد في الواقع من أمرين اثنين : بيان وجوب مطابقة الكلام لحال السامعين والمواطن التي يقال فيها ، والمعاني المستفادة من الكلام ضمنا بمعونة القرائن.
* * *
وتوضيحا للأمر الأول نقول : إن مباحث علم المعاني من شأنها أن تبين لنا وجوب مطابقة الكلام لحال السامعين والمواطن التي يقال فيها ، كما ترينا أن القول لا يكون بليغا كيفما كانت صورته حتى يلائم المقام الذي قيل فيه ، ويناسب حال السامع الذي ألقي عليه.
فللمخاطب الذي يلقى إليه خبر من الأخبار مثلا ثلاث حالات : ففي الحالة الأولى قد يكون خالي الذهن من الحكم الذي هو مضمون الخبر ، وعندئذ تقتضي مطابقة الكلام لحاله أن يلقى إليه الخبر مجردا عن أي تأكيد.
وفي الحالة الثانية قد يكون المخاطب على علم ما بالخبر ، ولكن علمه به يمتزج بالشك وله تطلع إلى معرفة الحقيقة ، وفي هذه الحالة وطبقا
__________________
(١) كتاب الصناعتين : ص ٢ ـ ٣.