المثل لا على طريق الحقيقة. قال ابن ميادة :
يداه يد تنهلّ بالخير والندى |
|
وأخرى شديد بالأعادي ضريرها |
وناراه : نار نار كل مدفّع |
|
وأخرى يصيب المجرمين سعيرها» (١) |
فالمثل المرادف عنده للمجاز قد استعمله مقابلا للحقيقة ، وبهذا كان أوّل من فطن إلى تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز. ولا شك أنّ هذا ينفي ما زعمه ابن تيمية في كتابه «الإيمان» (٢) من أنّ تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز تقسيم حادث بعد القرن الثالث الهجري.
ولعلّ خير من أفاد من ملاحظات الجاحظ البلاغية وبنى عليها وطورها هو ضياء الدين بن الأثير المتوفى سنة ٦٣٧ للهجرة ، في كتابه «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر» ، كما سنرى فيما بعد.
ومجمل القول في الجاحظ من جهة البلاغة أنّه ألّم في كتبه بالأساليب البيانية من تشبيه واستعارة وكناية وحقيقة ومجاز ، ولكنه لم يوردها في تعريفات اصطلاحية ، وإنّما جاء تعريفه لها والدلالة عليها عن طريق الأمثلة والنماذج لا عن طريق القواعد البلاغية.
والمقارنة بينه وبين من تقدموه في هذا الميدان تظهر أنّه كان بلا شك أقدرهم على إدراك أسرار البلاغة ، وأكثرهم اهتداء عن طريق النماذج إلى شتى العناصر أو الأساليب البيانية التي عرفت وحدّدت فيما بعد ، وأصبحت تؤلف مباحث البلاغة وموضوعاتها. ولهذا فهو يعدّ بحق مؤسس
__________________
(١) كتاب الحيوان للجاحظ ج : ٥. ص ١٣٣ الضرير : الشدة والبأس. الكل بفتح الكاف : من يعوله غيره ، أو اليتيم. المدفع بفتح الدال وتشديد الفاء : الفقير الذليل.
(٢) الإيمان. ص ٣٤.