استنبط البحتري تشبيهه استنباطا من خاطره.
ثم يوضّح ابن الأثير رأيه بقوله : «وإذا شئت أن تفرّق بين صناعة التشبيه فانظر إلى ما أشرت إليه ههنا ، فإن كان أحد التشبيهين عن صورة مشاهدة والآخر عن صورة غير مشاهدة ، فاعلم أن الذي هو عن صورة غير مشاهدة أصنع. ولعمري أن التشبيهين كليهما لا بدّ فيهما من صورة تحكى ، لكن أحدهما شوهدت الصورة فيه فحكيت والآخر استنبطت له صورة لم تشاهد في تلك الحال وإنما الفكر استنبطها.
ألا ترى أن ابن الرومي نظر إلى النرجس وإلى الخمر فشبّه ، وأما البحتري فإنه مدح قوما بأن خلق السماح باق فيهم ينتقل عن الأول إلى الآخر ، ثم استنبط لذلك تشبيها فأدّاه فكره إلى السيف وقرابه الذي يفنى في كل حين وهو باق لا يفنى بفنائه. ومن أجل ذلك كان البحتري أصنع في تشبيهه» (١).
والأصل في حسن التشبيه أن يشبه الغائب الخفي غير المعتاد بالظاهر المعتاد ، وهذا يؤدي إلى إيضاح المعنى وبيان المراد ، وذلك كقول الرسول : «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» ففي هذا الحديث إرشاد إلى خفة الحال وعدم الارتباط والتعلّق الشديد بالدنيا ؛ فإن الغريب لا ارتباط له في بلاد الغربة ، وابن السبيل لا وجود له في مكان إلا بمقدار العبور وقطع المسافة. فهذا المعنى أظهره التشبيه نهاية الظهور.
ويؤكد أبو هلال العسكري هذا الأصل من أصول التشبيه الحسن بقوله : «والتشبيه يزيد المعنى وضوحا ويكسبه تأكيدا ، ولهذا أطبق جميع المتكلمين من العرب والعجم عليه ، ولم يستغن أحد منهم عنه. وقد جاء
__________________
(١) كتاب المثل السائر ص ١٥٩ ـ ١٦٠.