وكذلك فاعلم أنّ المجاز أولى بالاستعمال من الحقيقة في باب الفصاحة والبلاغة ، لأنّه لو لم يكن كذلك لكانت الحقيقة التي هي الأصل أولى منه حيث هو فرع عليها ، ولييس الأمر كذلك ، لأنّه قد ثبت وتحقق أنّ فائدة الكلام الخطابي هي إثبات الغرض المقصود في نفس السامع بالتخييل والتصور حتى يكاد ينظر إليه عيانا.
ألا ترى أنّ حقيقة قولنا : «زيد أسد» هي قولنا : «زيد شجاع» ، لكنّ هناك فرقا بين القولين في التصوير والتخييل وإثبات الغرض المقصود في نفس السامع ، لأنّ قولنا : «زيد شجاع» لا يتخيل منه السامع سوى رجل جريء مقدام ، فإذا قلنا : «زيد أسد» يخيل عند ذلك صورة الأسد وهيئته وما عنده من البطش والقوة ودق الفرائس ، وهذا لا نزاع فيه» (١).
فأعجب ما في العبارة المجازية عنده أنّها تنقل السامع عن خلقه الطبيعي في بعض الأحوال ، فإذا البخيل سمح جواد ، والجبان شجاع ، والطائش حكيم حتى إذا قطع عنه ذلك الكلام وأفاق من نشوته عاد إلى حالته الأولى ، وهذا هو فحوى السحر الحلال المستغني عن إلقاء العصا والحبال.
وأخيرا يشير ابن الأثير إلى ضرورة العدول عن المجاز إلى الحقيقة إن لم يكن فيه زيادة فائدة عليها ، وفي ذلك يقول : «واعلم أنّه إذا ورد عليك كلام يجوز أن يحمل معناه على طريق الحقيقة وعلى طريق المجاز باختلاف لفظه فانظر ، فإن كان لا مزية لمعناه في حمله على طريق المجاز ، فلا ينبغي أن يحمل إلّا على طريق الحقيقة لأنّها هي الأصل والمجاز هو الفرع ، ولا يعدل عن الأصل إلى الفرع إلّا لفائدة ... وهكذا كل ما يجيء من الكلام
__________________
(١) المثل السائر ص ٢٥ ـ ٢٦.