التفسير والبيان :
أجاب الله تعالى في هذه الآيات عن شبهتين للكفار منكري النبوة ، الأولى منهما هي الشبهة الثالثة لهم المتضمنة اغترارهم بما هم فيه من الإشراك واعتذارهم الواهي محتجين بالقدر : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ..) أي وقال المشركون بالله عبدة الأصنام والأوثان ، معتذرين عن شركهم ، محتجين بالقدر بقولهم : ما نعبد هذه الأصنام إلا بمشيئة الله ، فلو شاء الله ما عبدناهم ، ولا حرّمنا هذه المحرّمات من البحائر والسوائب والوصائل (١) ونحو ذلك مما ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم ، ما لم ينزّل به سلطانا ، ما حرمناها إلا برضا الله ، ولو كان تعالى كارها لما فعلنا ، لأنكره علينا بالعقوبة ، ولما مكننا منه.
وهذه الشبهة هي عين ما حكى الله تعالى عنهم في سورة الأنعام في قوله : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا : لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا ، وَلا آباؤُنا ، وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ ، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [١٤٨].
وقصدهم من ذلك ـ كما ذكر الشوكاني في فتح القدير ـ الطعن في الرسالة ، أي لو كان ما قاله الرسول حقا آتيا من الله من منع عبادة غير الله ، ومنع تحريم ما لم يحرمه الله ، لم يقع منا ما يخالف ما أراده الله منا ، فإنه قد شاء ذلك ، وما شاءه كان وما لم يشأ لم يكن ، فلما عبدنا غيره وحرمنا ما لم يحرمه ، دل على أن فعلنا مطابق لمراده وموافق لمشيئته ، وهم في الحقيقة لا يقرون بذلك ، ولكنهم قصدوا الطعن على الرسل.
ورد الله تعالى عليهم شبهتهم بقوله : (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي أن ذلك ليس جديدا في الاعتقاد الفاسد ، فمثل قولهم حدث ممن قبلهم من الأمم
__________________
(١) سبق تفسيرها في آية : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) [المائدة ٥ / ١٠٣].