غنى لمن تزود منها ، ودار موعظة لمن اتعظ بها ، مسجد أحباء الله ، ومصلّى ملائكة الله ، ومهبط وحي الله ، ومتجر أولياء الله ـ
اكتسبوا فيها الرحمة ، وربحوا فيها الجنة ، فمن ذا يذّمها وقد آذنت ببينها ، ونادت بفراقها ، ونعت نفسها وأهلها ، فمثّلت لهم ببلائها البلاء ، وشوقتهم بسرورها إلى السرور؟ راحت بعافية ، وابتكرت بفجيعة ، ترغيبا وترهيبا وتخويفا وتحذيرا ، فذمها رجال غداة الندامة ، وحمدها آخرون يوم القيامة ، ذكّرتهم الدنيا فتذكروا ، وحدثتهم فصدقوا ، ووعظتهم فاتعظوا» (١).
ذلك ، ومما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في همّ الدنيا : «من كانت الدنيا همه وسدمه جعل الله فقرا بين عينيه» (٢) حيث يعني : «من جعل الدنيا همه ، وقرّ عليها باله ، وأعرض عن الآخرة بوجهه ، وأخرج ذكرها من قلبه ، وأقبل على تثمير الأموال ، واستضحام الأحوال ، عاقبة الله على ذلك بأن يزيده فقر نفس ، وضرع خد ، فلا تسد مفاقره كثرة ما جمع وعدد ، وعظيم ما أثل وثمر ، فكأنه يرى الفقر بين عينيه ، فهو أبدا خائف من الوقوع فيه ، والانتهاء إليه ، فلا يزال آكلا لا يشبع ، وشاربا لا ينفع ، فمعه حرص الفقراء ، وله مال الأغنياء» (٣).
أجل «وهذه الخطوط إلى جنبها الأعراض تنهشها» (٤) فهي أعراض الدنيا التي تعرض فيها من المصائب ، وتطرق من النوائب ، تشبيها لها بالحيات الناهشة ، والذؤبان الناهسة ، لأخذها من لحم الإنسان ودمه ، وتأثيرها في نفسه وجسمه.
أجل ، أولئك الأنكاد ، الأعمون البعاد : «آثروا عاجلا ، وأخروا آجلا ، وتركوا صافيا ، وشربوا آجنا ، كأني أنظر إلى فاسقهم وقد صحب
__________________
(١) نهج البلاغة الحكمة ١٢٧ قالها (عليه السلام) وقد سمع رجلا يذم الدنيا : أيها الذام ...
(٣) المجازات النبوية للسيد الشريف الرضي (٧٥).
(٤) المصدر ٧٧ عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).