في المعطيات الحيوانية الظاهرة ، حاسرون عن المعطيات الإنسانية الزاهرة.
فلقد أعماكم عن هذه وتلك أنفسكم الأمارة بالسوء ، والشياطين المؤمّرون عليكم بالسوء ، فعميت أبصاركم ـ الفطرية والعقلية ، بل والحسية ـ عن إبصار الحق المرام ، فلا تبصر إلّا ظاهرا من الحياة الدنيا (أَنُلْزِمُكُمُوها) رؤية للبينة فتصديقا للرحمة (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) والكاره للحق ليس ليكره على قبول الحق ولا سيما إذا (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) و (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) إذ (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ).
وبما أن الرحمة لا توصف بالعمى ، وإنما يوصف الناس بها عن تمييز مواقعها وإدراك مواضعها ، فلما وصفوا بالعمى عنها حسن أن يوصف بذلك في القلب ، كما يقال : أدخلت الخاتم في أصبعي والمغفر في رأسي ، وإنما الداخل هو الأصبع والرأس.
أم إنها تعني أخفيت عليكم كما يقال : عمى عليّ خبرهم ، وعمي عليّ أثرهم ، أي خفي عني الخبر والأثر.
فيا عظماه لذلك الاتجاه في الإجابة عن المعترض القاسي حيث يخاطبهم خطاب الحنون ب «يا قوم» مرات في كل من القطاعات من حججه ، وبكل سماحة ومودة ، ثم «أرأيتم» تطلبا لرأيهم على ذبالة وعيهم خروجا عن الرؤية الحسية لفترة ، (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) شرطا دون تثبيت رغم ثابتها ، (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) : البينة والرحمة ، فلم تروهما فيّ ، فهل لكم أن تنكروها ـ إذا ـ فتكذبوني ، ثم (أَنُلْزِمُكُمُوها) إلزاما بغير حجة عميت عليكم (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) فلا دور للإلزام العقلي بينة ورحمة إذ عميت عليكم ثم لا دور للإلزام قلبيا (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ).
وهنا «أرأيتم» تكسح ثالوث «ما نرى» والناتج عنها : (.. بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) تحريضا على الرؤية العاقلة وراء الحس وهي الرؤية الإنسانية