المتميزة عن الحسية الحيوانية ، فقد وجههم إلى رؤية (بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) تتبين بالعقلية الإنسانية دون مجرد الحس.
وهكذا يتلطف نوح (عليه السلام) في توجيه أنظارهم وأبصارهم ولمس وجدانهم وإثارة حساسيتهم لإدراك القيم التي عميّت عليهم بما عمّوها على أنفسهم ، إعذارا لنفسه في نكرانه بينة الله ورحمته ، وحملا للمسؤولية كلها على عواتقهم بذلك التوجيه الوجيه الدقيق الرقيق ، الحقيق أن يكتب بالذهب.
فهذه طمأنة لصدق هذه الرسالة من ناحية البينة الصادقة والرحمة ، ثم من ناحية ثانية:
(وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ)(٢٩).
هنا عدم سؤال المال إضافة إلى بينات الهدى هما طرفان طريفان وجناحان ظريفان للطائر القدسي الرسالي أثبتا رسالته دون أية ريبة.
فالداعية على غير بينة وإن لم يسأل أجرا على دعوته ، وسائل الأجر عليها إثقالا على المدعوين وإن كان على بينة من ربه ولن ، هما لا يطمئن بهما في الادعاء والدعوة والدعاية ، فإن الذي يسأل أجرا قد يدعو حسب مصلحية الأجر وقدره ، أم يهدف الحصول على المال بدعوته الرسالية ، والذي لا يسأل أجرا ولكنه ليس على بينة قد لا يسأل جذبا للنفوس الساذجة ، بل وهو يدفع لمن يتبعه أجرا كما هو دراج رائج بين دعاة الباطل.
ولكن الذي هو على بينة من ربّه ولا يسأل أجرا ، ليس ليكلف العقول ما لا حجة له ، ولا يكلف أصحاب العقول مالا وأجرا ، فإنما يدعو دعوة خالصة مريحة مربحة عن أعباء الجاهليات والهمجيات.
لذلك نرى أن الدعاة الرساليين ككل يلحّقون بينات رسالاتهم بعدم سؤال الأجر ، مما يكمل حججهم على المكلفين دونما إبقاء لأية عاذرة عقلية ولا مالية.