(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفار ، أو خزنة الجنة المؤمنين ليحرسوهم من فيحها في مجازهم عليها ، كالمضمار فإنه الموضع الذي تضمر فيه الخيل ، أو مجدة في ترصد الكفرة لئلا يشذ منها واحد كالمطعان ، وقرئ (إِنَ) بالفتح على التعليل لقيام الساعة.
(لِلطَّاغِينَ مَآباً) مرجعا ومأوى.
(لابِثِينَ فِيها) وقرأ حمزة وروح «لبثين» وهو أبلغ. (أَحْقاباً) دهورا متتابعة ، وليس فيها ما يدل على خروجهم منها إذ لو صح أن الحقب ثمانون سنة أو سبعون ألف سنة ، فليس فيه ما يقتضي تناهي تلك الأحقاب لجواز أن يكون المراد أحقابا مترادفة كلما مضى حقب تبعه آخر ، وإن كان فمن قبيل المفهوم فلا يعارض المنطوق الدال على خلود الكفار ، ولو جعل قوله :
(لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً)(٢٦)
(لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) حالا من المستكن في (لابِثِينَ) أو نصب (أَحْقاباً) ب (لا يَذُوقُونَ) احتمل أن يلبثوا فيها أحقابا غير ذائقين إلا حميما وغساقا ، ثم يبدلون جنسا آخر من العذاب ، ويجوز أن يكون جمع حقب من حقب الرجل إذا أخطأه الرزق ، وحقب العام إذا قل مطره وخيره فيكون حالا بمعنى لابثين فيها حقبين ، وقوله (لا يَذُوقُونَ) تفسير له والمراد بالبرد ما يروحهم وينفس عنهم حر النار ، أو النوم وبالغساق ما يغسق أي يسيل من صديدهم ، وقيل الزمهرير وهو مستثنى من البرد إلا أنه أخر ليتوافق رؤوس الآي ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالتشديد.
(جَزاءً وِفاقاً) أي جوزوا بذلك جزاء ذا وفاق لأعمالهم ، أو موافقا لها أو وافقها وفاقا ، وقرئ «وفاقا» فعال من وفقه كذا.
(إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً)(٢٨)
(إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) بيان لما وافقه هذا الجزاء.
(وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) تكذيبا وفعال بمعنى تفعيل مطرد شائع في كلام الفصحاء. وقرئ بالتخفيف وهو بمعنى الكذب كقوله :
فصدقتها وكذبتها |
|
والمرء ينفعه كذّابه |
وإنما أقيم مقام التكذيب للدلالة على أنهم كذبوا في تكذيبهم ، أو المكاذبة فإنهم كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون كاذبين عندهم فكأن بينهم مكاذبة ، أو كانوا مبالغين في الكذب مبالغة المغالبين فيه ، وعلى المعنيين يجوز أن يكون حالا بمعنى كاذبين أو مكاذبين ، ويؤيده أنه قرئ «كذابا» وهو جمع كاذب ، ويجوز أن يكون للمبالغة فيكون صفة للمصدر أي تكذيبا مفرطا كذبه.
(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً) (٣٠)
(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ) وقرئ بالرفع على الابتداء. (كِتاباً) مصدر لأحصيناه فإن الإحصاء والكتبة يتشاركان في معنى الضبط أو لفعله المقدر أو حال بمعنى مكتوبا في اللوح ، أو صحف الحفظة والجملة اعتراض وقوله :
(فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات ومجيئه على طريقة الالتفات للمبالغة. وفي الحديث «هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار».