وأعلمهم أنّ ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطّائر ، هو الذي يلزمه أعناقهم. وقال الأزهريّ : الأصل في هذا أنّ الله تعالى لمّا خلق آدم ، علم المطيع من ذريّته ، والعاصي ، فكتب ما علمه منهم أجمعين ، وقضى سعادة من علمه مطيعا ، وشقاوة من علمه عاصيا ، فصار لكلّ منهم ما هو صائر إليه عند خلقه وإنشائه ، فذلك قوله : (أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ). والرابع : أنه ما يتطيّر من مثله من شيء عمله ، وذكر العنق عبارة عن اللزوم له ، كلزوم القلادة العنق من بين ما يلبس ، هذا قول الزّجّاج. وقال ابن الأنباري : الأصل في تسميتهم العمل طائرا ، أنهم كانوا يتطيّرون من بعض الأعمال.
قوله تعالى : (وَنُخْرِجُ لَهُ) قرأ أبو جعفر : «ويخرج» بياء مضمومة وفتح الراء. وقرأ يعقوب. وعبد الوارث : بالياء مفتوحة وضمّ الراء. وقرأ قتادة ، وأبو المتوكل : «ويخرج» بياء مرفوعة وكسر الراء. وقرأ أبو الجوزاء ، والأعرج : «وتخرج» بتاء مفتوحة ورفع الراء ، (يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً) وقرأ ابن عباس ، وعكرمة ، والضّحّاك : «كتاب» بالرفع ، يلقاه وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر «يلقّاه» بضمّ الياء وتشديد القاف. وأمال حمزة ، والكسائيّ القاف. قال المفسّرون : هذا كتابه الذي فيه ما عمل. وكان أبو السّوّار العدوي إذا قرأ هذه الآية قال : نشرتان وطيّة ، أمّا ما حييت يا ابن آدم ، فصحيفتك منشورة ، فأمل فيها شئت ، فإذا متّ ، طويت ، ثم إذا بعثت ، نشرت.
قوله تعالى : (اقْرَأْ كِتابَكَ) ، وقرأ أبو جعفر : «اقرأ» بتخفيف الهمزة وفيه إضمار تقديره ، فيقال له اقرأ كتابك. قال الحسن : يقرؤه أميّا كان أو غير أمّيّ ، ولقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك. وفي معنى (حَسِيباً) ثلاثة أقوال : أحدها : محاسبا. والثاني : شاهدا. والثالث : كافيا ، والمعنى : أنّ الإنسان يفوّض إليه حسابه ، ليعلم عدل الله بين العباد ، ويرى وجوب حجّة الله عليه ، واستحقاقه العقوبة ، ويعلم أنه إن دخل الجنّة ، فبفضل الله ، لا بعمله ، وإن دخل النار ، فبذنبه. قال ابن الأنباري : وإنّما قال : (حَسِيباً) والنّفس مؤنّثة ، لأنه يعني بالنّفس : الشّخص ، أو لأنه لا علامة للتّأنيث في لفظ النّفس ، فشبّهت بالسماء والأرض ، قال الله تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) (١) ، قال الشاعر :
ولا أرض أبقل إبقالها (٢)
(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥))
قوله تعالى : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي : له ثواب اهتدائه ، وعليه عقاب ضلاله.
قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) أي : نفس وازرة (وِزْرَ أُخْرى) قال ابن عباس : إنّ الوليد بن المغيرة قال : اتّبعوني وأنا أحمل أوزاركم ، فقال الله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ، قال أبو عبيدة : والمعنى : ولا تأثم آثمة إثم أخرى. قال الزّجاج : يقال : وزر ، يزر ، فهو وازر ، وزرا ، ووزرا ، ووزرة ، ومعناه : أثم إثما. وفي تأويل هذه الآية وجهان : أحدهما : أنّ الآثم لا يؤخذ بذنب غيره. والثاني : أنه
__________________
(١) سورة المزمل : ١٨.
(٢) هو عجز بيت لعامر بن جوين وصدره : «فلا مزنة ودقت ودقها». كما في «الكتاب» ١ / ٢٠٥. وفي «اللسان» المزنة : السحابة ، والودق : المطر.