أبي عبيد أنه قال : أصل «الأفّ» و «التفّ» : الوسخ على الأصابع إذا فتلته. وحكى ابن الأنباري فرقا ، فقال : قال اللغويون : أصل «الأفّ» في اللغة : وسخ الأذن ، و «التّفّ» : وسخ الأظفار ، فاستعملتهما العرب فيما يكره ويستقذر ويضجر منه. وحكى الزّجّاج فرقا آخر ، فقال : قد قيل : إنّ «أف» : وسخ الأظفار ، و «التفّ» : الشيء الحقير ، ونحو وسخ الأذن ، أو الشّظيّة تؤخذ من الأرض ، ومعنى «أف» : النّتن ، ومعنى الآية : لا تقل لهما كلاما تتبرّم فيه بهما إذا كبرا وأسنّا ، فينبغي أن تتولّى من خدمتهما مثل الذي تولّيا من القيام بشأنك وخدمتك ، (وَلا تَنْهَرْهُما) أي : لا تكلّمهما ضجرا صائحا في وجوههما. وقال عطاء بن أبي رباح : لا تنقض يدك عليهما ، يقال : نهرته أنهره نهرا ، وانتهرته انتهارا ، بمعنى واحد ، وقال ابن فارس : نهرت الرجل وانتهرته مثل : زجرته. قال المفسّرون : وإنما نهى عن أذاهما في الكبر ، وإن كان منهيا عنه على كلّ حال ، لأنّ حالة الكبر يظهر فيها منهما ما يضجر ويؤذي ، وتكثر خدمتهما.
قوله تعالى : (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) أي : لينا لطيفا أحسن ما تجد. وقال سعيد بن المسيّب : قول العبد المذنب للسيّد الفظ. قوله تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) أي : ألن لهما جانبك متذللا لهما من رحمتك إيّاهما. وخفض الجناح قد شرحناه في الحجر (١). قال عطاء : جناحك : يداك ، فلا ترفعهما على والديك. والجمهور يضمّون الذال من «الذّلّ» وقرأ أبو رزين ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وعاصم الجحدريّ ، وابن أبي عبلة : بكسر الذال. قال الفراء : الذلّ : أن تتذلّل لهما ، من الذّل ، والذّل : أن تتذلّل ولست بذليل في الخدمة (٢) والذلّ والذّلّة : مصدر الذّليل ، والذّلّ بالكسر : مصدر الذّلول ، مثل الدّابّة والأرض. قال ابن الأنباري : من قرأ «الذّل» ، بكسر الذّال ، جعله بمعنى الذّل ، بضم الذّال ، والذي عليه كبراء أهل اللغة أن الذّلّ من الرجل الذّليل ، والذّلّ من الدابّة الذّلول.
قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) أي : مثل رحمتها إيّاي في صغري حتى ربّياني ، وقد ذهب قوم إلى أنّ هذا الدّعاء المطلق نسخ منه الدّعاء لأهل الشّرك بقوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) (٣) ، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، ومقاتل. قال المصنف : ولا أرى هذا نسخا عند الفقهاء ، لأنه عامّ دخله التّخصيص ، وقد ذكر قريبا ممّا قلته ابن جرير. قوله تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) أي : بما تضمرون من البرّ والعقوق ، فمن بدرت منه بادرة وهو لا يضمر العقوق ، غفر له ذلك ، وهو قوله تعالى : (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) أي : طائعين لله ، وقيل بارين ، وقيل : توّابين ، (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) في الأوّاب عشرة أقوال (٤) : أحدها : أنه المسلم ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : أنه التّوّاب ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والضّحّاك ، وأبو عبيدة ، وقال ابن قتيبة : هو التّائب مرّة بعد مرّة. وقال الزّجّاج : هو التّوّاب المقلع عن جميع ما نهاه الله عنه ، يقال : قد آب يؤوب أوبا : إذا رجع.
__________________
(١) الحجر عند الآية : ٨٨.
(٢) في نسخة «الخلق».
(٣) سورة التوبة : ١١٣.
(٤) قال الإمام الطبري رحمهالله ٨ / ٦٦ : وأولى الأقوال بالصواب : قول من قال : الأوّاب : هو التائب من الذنب الراجع عن معصية الله إلى طاعته ، ومما يكرهه إلى ما يرضاه.