الناس وغيرهم من الموات ، تشير إليه بلفظ «أولئك» قال جرير :
الآية ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوى |
|
والعيش بعد أولئك الأيّام |
قال المفسّرون : الإشارة إلى الجوارح المذكورة ، يسأل العبد يوم القيامة فيما إذا استعملها ، وفي هذا زجر عن النّظر إلى ما لا يحلّ ، والاستماع إلى ما يحرم ، والعزم على ما لا يجوز.
(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩))
قوله تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) وقرأ الضّحّاك ، وابن يعمر : «مرحا» بكسر الراء ، قال الأخفش : والكسر أجود ، لأنّ «مرحا» اسم الفاعل ؛ قال الزّجّاج : كلاهما في الجودة سواء ، غير أنّ المصدر أوكد في الاستعمال ، تقول : جاء زيد ركضا ، وجاء زيد راكضا ، ف «ركضا» أوكد في الاستعمال ، لأنه يدلّ على توكيد الفعل ، وتأويل الآية : لا تمش في الأرض مختالا فخورا ، والمرح :
الأشر والبطر. وقال ابن فارس : المرح : شدّة الفرح.
قوله تعالى : (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) فيه قولان : أحدهما : لن تقطعها إلى آخرها. والثاني : لن تنفذها وتنقبها. قال ابن عباس : لن تخرق الأرض بكبرك ، ولن تبلغ الجبال طولا بعظمتك. قال ابن قتيبة : والمعنى : لا ينبغي للعاجز أن يبذخ ويستكبر.
قوله تعالى : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «سيّئة» منوّنا غير مضاف ، على معنى : كان خطيئة ، فعلى هذا يكون قوله تعالى : (كُلُّ ذلِكَ) إشارة إلى المنهيّ عنه من المذكور فقط. وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «سيّئه» مضافا مذكّرا ، فتكون لفظة «كلّ» يشار بها إلى سائر ما تقدّم ذكره. وكان أبو عمرو لا يرى هذه القراءة. قال الزّجّاج : وهذا غلط من أبي عمرو ، لأنّ في هذه الأقاصيص سيّئا وحسنا ، وذلك أنّ فيها الأمر ببرّ الوالدين ، وإيتاء ذي القربى ، والوفاء بالعهد ، ونحو ذلك ، فهذه القراءة أحسن من قراءة من نصب السّيئة ، وكذلك قال أبو عبيدة : تدبّرت الآيات من قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) (٢٣) فوجدت فيها أمورا حسنة. وقال أبو عليّ : من قرأ «سيئة» رأى أنّ الكلام انقطع عند قوله تعالى : (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) ، وأنّ قوله : (وَلا تَقْفُ) لا حسن فيه.
قوله تعالى : (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ) يشير إلى ما تقدّم من الفرائض والسّنن ، (مِنَ الْحِكْمَةِ) ، أي : من الأمور المحكمة والأدب الجامع لكلّ خير. وقد سبق معنى «المدحور» (١).
(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠))
__________________
(١) سورة الأعراف : ١٨.