فإن تسألينا فيم نحن فإنّنا |
|
عصافير من هذا الأنام المسحّر |
وقال امرؤ القيس :
أرانا مرصدين لأمر غيب |
|
ونسحر بالطّعام وبالشّراب |
أي : نغذّى ، لأنّ أهل السماء لا يأكلون ، فأراد أن يكون ملكا. فعلى هذا يكون المعنى : إن تتّبعون إلّا رجلا به سحر ، خلقه الله كخلقكم ، وليس بملك ، وهذا قول أبي عبيدة. قال ابن قتيبة : والقول قول مجاهد ، أي مخدوعا ، لأنّ السّحر حيلة وخديعة ؛ ومعنى قول لبيد «المسحّر» : المعلّل ، وقول امرئ القيس : «ونسحر» أي : نعلّل ، وكأنّا نخدع ، والناس يقولون : سحرتني بكلامك ، أي : خدعتني ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) ، لأنهم لو أرادوا رجلا ذا رئة ، لم يكن في ذلك مثل ضربوه ، فلمّا أرادوا مخدوعا ـ كأنه بالخديعة سحر ـ كان مثلا ضربوه ، وكأنهم ذهبوا إلى أنّ قوما يعلّمونه ويخدعونه. قال المفسّرون : ومعنى (ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) بيّنوا لك الأشباه ، حتى شبّهوك بالساحر والشاعر والمجنون (فَضَلُّوا) عن الحقّ ، (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لا يجدون سبيلا إلى تصحيح ما يعيبونك به. والثاني : لا يستطيعون سبيلا إلى الهدى ، لأنّا طبعنا على قلوبهم. والثالث : لا يأتون سبيل الحقّ ، لثقله عليهم ؛ ومثله قولهم : لا أستطيع أن أنظر إلى فلان ، يعنون ؛ أنا مبغض له ، فنظري إليه يثقل ، ذكرهنّ ابن الأنباري. قوله تعالى : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً) قرأ ابن كثير : «أيذا» بهمزة ثم يأتي بياء ساكنة من غير مدّ ، «أينا» ، مثله وكذلك في كلّ القرآن. وكذلك روى قالون عن نافع ، إلّا أنّ نافعا كان لا يستفهم في «أينا» ، كان يجعل الثاني خبرا في كلّ القرآن ، وكذلك مذهب الكسائيّ ، غير أنه يهمز الأولى همزتين. وقرأ عاصم ، وحمزة بهمزتين في الحرفين جميعا. وقرأ ابن عامر : «إذا كنّا» بغير استفهام بهمزة واحدة «ءاءنا» بهمزتين يمدّ بينهما مدّة.
قوله تعالى : (وَرُفاتاً) فيه قولان : أحدهما : أنه التراب ولا واحد له ، فهو بمنزلة الدّقاق والحطام ، قاله الفرّاء ، وهو مذهب مجاهد. والثاني : أنه العظام ما لم تتحطّم ، والرّفات : الحطام ، قاله أبو عبيدة. وقال الزّجّاج : الرّفات : التراب. والرّفات : كلّ شيء حطم وكسر ، و (خَلْقاً جَدِيداً) في معنى مجدّدا.
قوله تعالى : (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) فيه ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنه الموت ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، والأكثرون. والثاني : أنه السماء والأرض والجبال ، قاله مجاهد. والثالث : أنه ما يكبر في صدوركم ، من كلّ ما استعظموه من خلق الله تعالى ، قاله قتادة.
فإن قيل : كيف قيل لهم : (كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) وهم لا يقدرون على ذلك؟ فعنه جوابان : أحدهما : إن قدرتم على تغيّر حالاتكم ، فكونوا حجارة أو أشدّ منها ، فإنّا نميتكم ، وننفّذ أحكامنا فيكم ، ومثل هذا قولك للرّجل : اصعد إلى السماء فإني لا حقك. والثاني : تصوّروا أنفسكم حجارة أو أصلب منها ، فإنا سنبيدكم ، قال الأحوص :
__________________
(١) قال الطبري رحمهالله في «تفسيره» ٨ / ٩١ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يقال كل ما في صدور بني آدم ، فجائز أن يكون عني به الموت أو السماء والأرض أو غير ذلك لأن الله جل ثناؤه لم يخصص منه شيئا دون شيء.