قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيه قولان (١) : أحدهما : هادي أهل السّموات والأرض ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال أنس بن مالك ، وبيان هذا أنّ النّور في اللغة : الضّياء ، وهو الذي تصل به الأبصار إلى مبصراتها ، فورد النّور مضافا إلى الله تعالى ، لأنه هو الذي يهدي المؤمنين ويبيّن لهم ما يهتدون به. فالخلائق بنوره يهتدون. والثاني : مدبّر السّموات والأرض ، قاله مجاهد ، والزّجّاج. وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو المتوكّل ، وابن السّميفع : «الله نوّر» بفتح النون والواو وتشديدها ونصب الراء «السموات» بالخفض «والأرض» بالنّصب.
قوله تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ) في هاء الكناية أربعة أقوال : أحدها : أنها ترجع إلى الله عزوجل ، قال ابن عباس : مثل هداه في قلب المؤمن. والثاني : أنها ترجع إلى المؤمن ، فتقديره : مثل نور المؤمن ، قاله أبيّ بن كعب. وكان أبيّ وابن مسعود يقرآن : «مثل نور المؤمنين». والثالث : أنها ترجع إلى محمّد صلىاللهعليهوسلم ، قاله كعب. والرابع : أنها ترجع إلى القرآن ، قاله سفيان.
فأمّا المشكاة ، ففيها ثلاثة أقوال (٢) : أحدها : أنها في موضع الفتيلة من القنديل الذي هو كالأنبوب ، والمصباح : الضّوء ، قاله ابن عباس. والثاني : أنها القنديل ، والمصباح : الفتيلة ، قاله مجاهد. والثالث : أنها الكوّة التي لا منفذ لها ، والمصباح : السّراج ، قاله كعب ، وكذلك قال الفرّاء : المشكاة : الكوّة التي ليست بنافذة. وقال ابن قتيبة : المشكاة : الكوّة بلسان الحبشة. وقال الزّجّاج : هي من كلام العرب ، والمصباح : السّراج. وإنما ذكر الزّجاجة ، لأنّ النّور في الزّجاج أشدّ ضوءا منه في غيره. وقرأ أبو رجاء العطاردي ، وابن أبي عبلة : «في زجاجة الزّجاجة» بفتح الزاء فيهما. وقرأ معاذ القارئ ، وعاصم الجحدريّ ، وابن يعمر : بكسر الزاء فيهما. وقال بعض أهل المعاني : معنى الآية : كمثل مصباح في مشكاة ، فهو من المقلوب.
فأما الدّرّيّ ، فقرأ أبو عمرو ، والكسائي وأبان عن عاصم «درّيء» بكسر الدال وتخفيف الياء ممدودا مهموزا. قال ابن قتيبة : المعنى على هذا : إنه من الكواكب الدّراريء ، وهي اللاتي يدرأن
__________________
(١) قال الطبري رحمهالله في «تفسيره» ٩ / ٣٢٠ : يعني هادي من في السماوات والأرض ، فهم بنوره إلى الحق يهتدون وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون. وإنما اخترنا القول الذي اخترنا ، لأنه عقيب قوله (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) فكان ذلك بأن يكون خبرا عن موقع يقع تنزيله من خلقه ومن مدح ما ابتدأ بذكر مدحه أولى وأشبه.
فتأويل الكلام : ولقد أنزلنا إليكم أيها الناس ، آيات مبينات الحق من الباطل ، (وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) فهديناكم بها ، وبينا لكم معالم دينكم بها ، لأني هادي أهل السماوات والأرض.
(٢) قال الطبري رحمهالله في «تفسيره» ٩ / ٣٢٥ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال ذلك مثل ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به. مثل المشكاة وهي عمود القنديل الذي فيه الفتيلة. وذلك نظير الكوة تكون في الحيطان لا منفذ لها. ووافقه ابن كثير رحمهالله في «تفسيره» ٣ / ٣٦١ فقال : وتقديره : شبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى ، وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه ـ كما قال تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري ، وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل ، الذي لا كدر فيه ولا انحراف. فقوله (كَمِشْكاةٍ) هو موضع الفتيلة من القنديل. هذا هو المشهور ولهذا قال بعده : (فِيها مِصْباحٌ) وهو الذّبالة التي تضيء. (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) أي : هذا الضوء مشرق في زجاجة صافية.