على جهة الحكاية للحضرة ؛ والمعنى : أنه إذا نظر إليهما النّاظر قال : هذا من شيعته ، وهذا من عدوّه. قال المفسّرون : وكان القبطيّ قد سخّر الإسرائيليّ ليحمل حطبا إلى مطبخ فرعون (فَاسْتَغاثَهُ) أي : فاستنصره ، (فَوَكَزَهُ) قال الزّجّاج : الوكز : أن يضربه بجمع كفّه. وقال ابن قتيبة : «فوكزه» أي : لكزه ، يقال : وكزته ولكزته ولهزته : إذا دفعته ، (فَقَضى عَلَيْهِ) أي : قتله ؛ وكلّ شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه. وللمفسّرين فيما وكزه به قولان : أحدهما : كفّه ، قاله مجاهد. والثاني : عصاه ، قاله قتادة. فلمّا مات القبطيّ ندم موسى لأنه لم يرد قتله ، و (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي : هو الذي هيّج غضبي حتى ضربت هذا ، (إِنَّهُ عَدُوٌّ) لابن آدم (مُضِلٌ) له مبين عداوته. ثم استغفر ف (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) أي : بقتل هذا ، ولا ينبغي لنبيّ أن يقتل حتى يؤمر. (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) بالمغفرة (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) قال ابن عباس : عونا للكافرين. وهذا يدلّ على أنّ الإسرائيليّ الذي أعانه موسى كان كافرا.
(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠))
قوله تعالى : (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ) وهي التي قتل بها القبطيّ (خائِفاً) على نفسه (يَتَرَقَّبُ) أي : ينتظر سوءا يناله منهم ويخاف أن يقتل به (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ) وهو الإسرائيليّ (يَسْتَصْرِخُهُ) أي : يستغيث به على قبطيّ آخر أراد أن يسخّره أيضا (قالَ لَهُ مُوسى) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى القبطيّ. الثاني : إلى الإسرائيليّ ، وهو أصحّ. فعلى الأول يكون المعنى : (إِنَّكَ لَغَوِيٌ) بتسخيرك وظلمك. وعلى الثاني فيه قولان : أحدهما : أن يكون الغويّ بمعنى المغوي ، كالأليم بمعنى المؤلم والوجيع بمعنى الموجع والمعنى : إنّك لمضلّ حين قتلت بالأمس رجلا بسببك ، وتدعوني اليوم إلى آخر. والثاني : أن يكون الغويّ بمعنى الغاوي ؛ والمعنى : إنّك غاو في قتالك من لا تطيق دفع شرّه عنك.
قوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) أي : بالقبطيّ (قالَ يا مُوسى) هذا قول الإسرائيليّ من غير خلاف علمناه بين المفسّرين ؛ قالوا : لمّا رأى الإسرائيليّ غضب موسى عليه حين قال له : «إنّك لغويّ مبين» ورآه قد همّ أن يبطش بالفرعونيّ ، ظنّ أنّه يريده فخاف على نفسه ف (قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي) وكان قوم فرعون لم يعلموا من قاتل القبطيّ ، إلّا أنّهم أتوا إلى فرعون فقالوا : إنّ بني إسرائيل قتلوا رجلا منّا فخذ لنا بحقّنا ، فقال : ابغوني قاتله ومن يشهد عليه لآخذ لكم حقّكم ، فبينا هم يطوفون ولا يدرون من القاتل ، وقعت هذه الخصومة بين الإسرائيليّ والقبطيّ في اليوم الثاني فلمّا قال الإسرائيليّ لموسى : «أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس» انطلق القبطيّ إلى فرعون فأخبره أنّ موسى هو الذي قتل الرجل ، فأمر بقتل موسى ، فعلم بذلك رجل من شيعة موسى فأتاه فأخبره ، فذلك قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى). فأمّا الجبّار ، فقال السّدّيّ : هو القتّال ، وقد شرحناه في