بل لو شاء لما ترك فى دار الاسلام ذميّا واحدا. ولكن أراد أن (١) تبقى رسوم الأنبياء فى العالم ، وشهد لهم بالتّصديق وسالم اهل الملل بأخذ الجزية منهم ، لتبقى رسوم الأنبياء (ع) ؛ فيكون حجّة لله عزوجل على خلقه. ولو لا (٢) ذلك لاستنّ فيهم بسنّة (٣) العرب ؛ فانّه لم يرض منهم إلّا بالاسلام أو القتل ، ولم يقبل منهم الجزية. ولو فعل ذلك بأهل الملل لكان قادرا على ذلك. فلهذه العلة أقرّ هذه الأبنية. وليس سبيل المساجد بروميّة هكذا ، لأن النّصارى لا تشهد لمحمّد (ص) بالتصديق كما شهد محمد لعيسى (ع). ولو قدرت الروم على إخرابها لما تركتها ولكنهم أقرّوها اضطرارا. ثم نقول (٤) : إنّ هذه الممالك التى هى تحت أحكام القرآن ، هى أعدل الجزائر طبائع وأفضل أقاليم الأرض ، وهى أرض الأنبياء والرّسل ، وفيها مبعثهم ، وهى منشأ الحكماء وأهل الفضل ، وقد صارت ممالك لأهل الاسلام ، والاسلام قد طبّق العالم تطبيقا. ولم يغلب أحد من أهل سائر الملل أهل الاسلام فى شيء من ممالكهم. فهذا هو القهر (٥) والغلبة والظّهور الّذي وعد الله محمدا (ص) أن يظهر دينه على الدّين كلّه ولو كره المشركون. وقد أنجز له وعده ، وظهرت حجّته ، وصحّت هذه الدّلالة الواضحة والمعجزة البيّنة ، وبان صدقه ؛ وهو عزوجل يتمّم ذلك كله (٦) له حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا (والله بالغ أمره ولو كره الكافرون).
وتأوّل قوم فى هذه الآية : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) فقالوا : إنّ الله قد وعد محمّدا أن يظهره على الدين كلّه. فخرج عن الدّنيا (٧) ، ولم يظهره (٨) على الدّين كلّه ، واحتجّوا بذلك. وليست لهم حجّة فى هذه
__________________
(١) ـ ان : ـ A (٢) ـ ولو لا : لو لاC (٣) ـ بسنة : سنةC (٤) ـ نقول : يقول A (٥) ـ القهر : ـ B (٦) ـ كله ... كله : ـ B (٧) ـ الدنيا : الدين A (٨) ـ يظهر : ـ C