وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا أسود بن عامر ، أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن جبير بن مالك ، قال : أمر بالمصاحف أن تغير ، قال : فقال ابن مسعود : من استطاع منكم أن يغل مصحفا فليغله ، فإنه من غل شيئا جاء به يوم القيامة ، ثم قال : قرأت من فم رسول اللهصلىاللهعليهوسلم سبعين سورة ، أفأترك ما أخذت من في رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ وروى وكيع في تفسيره عن شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن إبراهيم ، قال : لما أمر بتحريق المصاحف قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : يا أيها الناس غلوا المصاحف ، فإنه من غل يأت بما غل يوم القيامة ، ونعم الغل المصحف يأتي به أحدكم يوم القيامة ـ وقال أبو داود ، عن سمرة بن جندب ، قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا غنم غنيمة أمر بلالا فينادي في الناس ، فيجيئون بغنائمهم ، فيخمسه ويقسمه ، فجاء رجل يوما بعد النداء بزمام من شعر فقال : يا رسول الله ، هذا كان مما أصبنا من الغنيمة ، فقال «أسمعت بلالا ينادي» ثلاثا؟ قال : نعم. قال «نعم. قال «فما منعك أن تجيء»؟ فاعتذر إليه فقال «كلا أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك».
وقوله تعالى : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي لا يستوي من اتبع رضوان الله فيما شرعه فاستحق رضوان الله وجزيل ثوابه ، وأجير من وبيل عقابه ، ومن استحق غضب الله وألزم به فلا محيد له عنه ، ومأواه يوم القيامة جهنم وبئس المصير ، وهذه الآية لها نظائر كثيرة في القرآن ، كقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) [الرعد : ١٩] ، وكقوله (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [القصص : ٦١]. ثم قال تعالى : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) ، قال الحسن البصري ومحمد بن إسحاق : يعني أهل الخير وأهل الشر درجات ، وقال أبو عبيدة والكسائي : منازل ، يعني متفاوتون في منازلهم ودرجاتهم في الجنة ودركاتهم في النار ، كقوله تعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) [الأحقاف : ١٩] ، ولهذا قال تعالى : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي وسيوفيهم إياها ، لا يظلمهم خيرا ولا يزيدهم شرا ، بل يجازي كل عامل بعمله ، وقوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي من جنسهم ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به ، كما قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) [الروم : ٢١] أي من جنسكم ، وقال تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [الكهف : ١١٠]. وقال تعالى: (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٢٠] وقال تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [يوسف : ١٠٩] وقال تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام : ١٣٠] فهذا أبلغ في الامتنان أن يكون الرسول إليهم منهم بحيث يمكنهم مخاطبته ومراجعته في فهم الكلام عنه ، ولهذا قال
__________________
(١) مسند أحمد ١ / ٤١٤.