العليا من التقوى ، غير انّ هناك نظرية أُخرى في حقيقتها ، لا تنافي النظرية الأُولى ، بل ربّما تعد من علل تحقق الدرجة العليا من التقوى التي عرفنا العصمة بها وموجب تكونها في النفس ، وحقيقة هذه النظرية عبارة عن «وجود العلم القطعي اليقيني بعواقب المعاصي والآثام» علماً قطعياً لا يغلب ولا يدخله شك ، ولا يعتريه ريب ، وهو أن يبلغ علم الإنسان درجة يلمس في هذه النشأة لوازم الأعمال وآثارها في النشأة الأُخرى وتبعاتها فيها ، ويصير على حد يدرك بل يرى درجات أهل الجنة ودركات أهل النار ، وهذا العلم القطعي هو الذي يزيل الحجب بين الإنسان وتوابع الأعمال ، ويصير الإنسان مصداقاً لقوله سبحانه : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) (١) ، وصاحب هذا العلم هو الذي يصفه الإمام علي عليهالسلام بقوله : «فهم والجنة كمن قد رآها ، فهم فيها منعمون ، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون». (٢)
فإذا بلغ العلم إلى هذه الدرجة من الكشف يصد الإنسان عن اجتراء المعاصي واقتراف المآثم بل لا يجول حولها فكره.
ولتوضيح تأثير هذا العلم في صيرورة الإنسان معصوماً من اقتراف الذنب نأتي بمثال : إنّ الإنسان إذا وقف على أنّ في الأسلاك الكهربائية طاقة من شأنها قتل الإنسان إذا مسها من دون حاجز أو عائق بحيث يكون المس والموت مقترنين ، أحجمت نفسه عن مس تلك الأسلاك والاقتراب منها دون عائق.
هذا نظير الطبيب العارف بعواقب الأمراض وآثار الجراثيم ، فإنّه إذا وقف على ماء اغتسل فيه مصاب بالجذام أو البرص أو السل ، لم يقدم على شربه والاغتسال منه ومباشرته مهما اشتدت حاجته إلى ذلك لعلمه بما يجر عليه الشرب
__________________
(١). التكاثر : ٥ ـ ٦.
(٢). نهج البلاغة : ٢ : الخطبة ١٨٨ ، ص ١٨٧ ، طبعة عبده.