والجوهر. وإن التخاطب بالحسنى جدير بأن ييسّر التفاهم والتمازج بينهم. أما إذا ظهر منهم شاذون فإنما يصدرون في شذوذهم عن سوء النية والعدوان والظلم. ومن واجب المسلمين أن يقابلوهم بما يستحقون فالخطة عظيمة رائعة لأنها تقوم على أساس الحقّ والعدل من جهة وعلى الرغبة الصادقة من ناحية المسلمين في توطيد التفاهم والتمازج من جهة أخرى.
والاستثناء الذي احتوته الآية وفحوى الآيات عامة يدلان على أن فريقا من أهل الكتاب كان معاندا مكابرا في موقف الجدل والحجاج إلى جانب فريق آخر كان مؤمنا مصدقا. وفي هذا صورة من صور العهد المكي حيث كان من العرب مؤمنون وكافرون وكان إلى جانبهم من الكتابيين مؤمنون وكافرون أيضا. وقد شرحنا ذلك في مناسبات سابقة وبيّنا أسبابه التي هي أسباب شخصية ونفعية دنيوية. وقد آمن بالرسالة المحمدية وصدق صلة القرآن بالله كل من استطاع أن يتفلّت من هذه الأسباب منهم كما ذكرته آيات عديدة مرّت في سور عديدة ، واستمر هذا المظهر في العهد المدني أيضا على ما سوف يرد شرحه بعد.
ولقد رسمت الخطة الآنفة الذكر في الآية [١٢٥] من سورة النحل إزاء كل الناس وبدون استثناء (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ويظن كما قلنا أن بعض الكتابيين الجاحدين كانوا في جدلهم معاندين مكابرين بل بذيئين سيئي الأدب. فاقتضت حكمة التنزيل تنزيل الاستثناء في الآية [٤٦].
هذا ويتبادر والله أعلم أن آية (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) قد هدفت فيما هدفت إليه تقرير كون ما في القرآن وحي رباني ونفي كونه مقتبسا من كتب سابقة كانت متداولة. وهذا ما كان ينسبه إليه المشركون في جدالهم معه على ما تتضمنه الآية الرابعة والخامسة من سورة الفرقان : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً