وأربعين يوما فلاح لنا بريق شرف تلك المدينة من مسيرة خمسة أيّام ، فهالنا منظرها وامتلأت قلوبنا منها رعبا من عظمها وبعد إقطارها ، فلمّا قربنا منها إذا أمرها عجيب هائل ، ومنظرها مخيف موجل كأنّ المخلوقين لم يصنعوها ، فنزلنا عند ركنها الشرقيّ فصلّينا عشاء الآخرة ، ثم بتنا بأرعب ليلة بات بها أحد من المسلمين ، فلمّا أصبحنا كبّرنا استئناسا بالصبح وسرورا به ، ثم أرسلت رجلا من أصحابي في مائة فارس ، وأمرته أن يدور مع سور المدينة ليعرف لنا موضع بابها ، فغاب عنّا يومين ، ثم أتانا صبيحة يوم الثالث فأخبر أنها مدينة لا باب لها ، ولا مسلك إليها ، فجمعت أمتعة أصحابي إلى جانب سورها وجعلت بعضها إلى بعض لأنظر من يصعد إليها فيأتيني بخبر ما فيها فلم تبلغ أمتعتنا ربع الحائط لارتفاعه في الهواء فأمرت فاتّخذ سلاليم كثيرة ، ووصلت بعضها إلى بعض بالجبال ونضبتها على الحائط ، وناديت في المعسكر من يتعرّف لي خبر هذه المدينة ، ويصعد هذه السلاليم فله عشرة آلاف درهم ، فانتدب رجل من أصحابي فتسنّم السلّم وهو يتعوّذ ويقرأ ، فلمّا صار في أعلاها وأشرف على المدينة قهقه ضاحكا ، ثم هبط إليها فناديناه : أخبرنا بما رأيت فيها ، فلم يجبنا ، فجعلنا أيضا لمن يصعد إليها ويأتينا بخبرها وخبر الرجل ألف دينار ، فانتدب رجل من حمير وأخذ الدنانير وجعلها في رحله ، ثم صعد فلمّا استوى على السور قهقه ضاحكا ، ثم نزل إليها فناديناه : أخبرنا بما وراءك وما الذي ترى فلم يجبنا أحد ، حتى صعد ثلاثة رجال كلّهم يقهقه ضاحكا ويتطيّر ، فامتنع أصحابي بعد ذلك من الصعود وأشفقوا على أنفسهم ، فلمّا يئست من أولئك الرجال ومن معرفة المدينة ، رحلت نحو البحيرة ، فسرت مع سور المدينة فانتهينا إلى مكان من السور فيه كتابة بالعربية (١) ، فوقفت حتى أمرت باستنساخه وهي :
ليعلم المرء ذو العزّ المنيع ومن |
|
يرجو الخلود ولا حيّ بمخلود |
لو أنّ خلقا ينال الخلد في مهل |
|
لنال ذاك سليمان بن داود |
__________________
(١) معجم البلدان (بالحميرية) وقد أكملنا بعض الفجوات في خبر هذه المدينة اعتمادا عليه إذ ان ياقوت الحموي كان يعتمد على النسخة الكاملة من كتاب ابن الفقيه. انظر ٤ : ٤٥٥ ـ ٤٥٧.