يقال لها واسط القصب فبات بها واستطاب ليلها واستعذب أنهارها واستمرأ طعامها وشرابها فقال : كم بين هذا الموضع والكوفة؟ فقيل : أربعون فرسخا. فقال : كم منها إلى المدائن؟ قال : أربعون. قال : فكم إلى الأهواز؟ قال : أربعون. فقال : هذا موضع متوسط. وكتب إلى الحجاج بالخبر ويمدح له الموضع. فكتب إليه : اشتر لي فيه موضعا أبني به مدينة. وكان موضع واسط لرجل من الدهاقين يقال له داوردان. فساومه بالموضع فقال له الدهقان : ما يصلح للأمير؟ قال : ولم؟ قال أخبرك عنه بثلاث خصال ، تخبره بها ثم الأمر إليه. قال : وما هي؟ قال : بلاد سبخة والبناء لا يثبت فيها ، وهي شديدة الحر والسموم ، وإن الطائر ليطير في الجو فيسقط لشدة الحرّ ميتا ، وهي بلاد أعمار أهلها قليلة. فكتب بذلك إلى الحجاج فكتب إليه : هذا رجل يكره مجاورتنا فأعلمه أنّا سنحفر بها الأنهار ، ونكثر فيها من البناء والغرس والزرع حتى تغدوا وتطيب. وأما ما ذكر أنها سبخة وأن البناء لا يثبت فيها فسنحكمه ثم نرحل عنه فيصير لغيرنا. وأما قلّة أعمار أهلها فهذا شيء إلى الله عزّ وجلّ لا إلينا. وأعلمه أنّا نحسن مجاورته ونقضي زمامه بإحساننا إليه.
قال : فابتاع الموضع من الدهقان وابتدأ في البناء سنة ثلاث وثمانين واستتمه في سنة ست وثمانين ومات في سنة خمس وتسعين.
ولما فرغ منه وسكنه أعجب به إعجابا شديدا. فبينا هو ذات يوم في مجلسه [٢٢ ب] إذ أتاه بعض خدمه فقال له : إن فلانة ـ جارية من جواريه ، كان مائلا إليها ـ أصابها لمم (١). فغمّه ذلك ووجه إلى الكوفة في إشخاص عبد الله بن هلال (٢) الذي كان يقال له صديق إبليس. فلما قدم عليه عرّفه الخبر فقال له أنا أحلّ [السحر] عنها. قال : افعل. فلما زال ما كان بها. قال له الحجاج : ويحك إني
__________________
(١) لمم ولمة : مس من الجن (أساس).
(٢) أشهر السحرة في الفولكلور العربي. كان معاصرا للحجاج الثقفي زعموا (أنه صديق إبليس وختنه وأنهم كانوا لا يشكّون أن إبليس جدّه من قبل أمهاته) (الحيوان للجاحظ ١ : ١٩٠ ومواضع أخرى منه) وابن النديم ٣٧١.