وأما عقلا : فلأن المعتزلة قالوا : لو خلق الله ـ عزوجل ـ معاصي خلقه ، ثم عاقبهم عليها ، لكان عن العدل خارجا ، وفي ساحة الجور والجفا. ولأن ما يخلقه الله ـ عزوجل ـ يجب وقوعه ؛ فتكليف العبد بعد ذلك بإيجاده تكليف بالواجب أو الممتنع ، وتحصيل للحاصل ، وهو محال. ولأنا ندرك بالحس أو الضرورة وقوع أفعالنا بأدواتنا على وفق دواعينا وقدرتنا وإرادتنا ، ونعلم بالوجدان أننا الموجدون المخترعون لها ؛ فلا نقبل بعد ذلك الحوالة على غائب لا ندركه ، وصار النزاع في ذلك من باب التشكيك في البديهات والسفسطة ؛ فلا يسمع.
وقالت المجبرة : لو كان العبد خالقا لأفعاله / [٥ ب / م] لكان مع الله ـ عزوجل ـ خالقون كثيرون ، وذلك ضرب من الشرك كالمجوسية ؛ ومن ثم ورد تشبيه القدرية بالمجوس (١) ، ولأن أخص صفات الله ـ عزوجل ـ كونه قديما مخترعا ، فلو كان معه مخترع غيره لكان ذلك المخترع منازعا في الإلهية أو مقاسما فيها ، وهو باطل ؛ ولأن فعل العبد ممكن ، وكل ممكن فإنه لا يخرج إلى الوجود إلا بمرجح ، ثم ذلك المرجح : إما من العبد ؛ فيلزم : إما الدور ، أو التسلسل. أو من الرب ـ عزوجل ـ فيكون هو الخالق ، وهو المطلوب.
وأما الكشف عن سره فذلك يظهر / [٨ / ل] بمقدمات :
الأولى : أن الله عزوجل ـ أحب أن يكون له في خلقه المشيئة النافذة.
الثانية : أنه ـ عزوجل ـ أحب أن يكون له عليهم الحجة البالغة.
الثالثة : أنه ـ عزوجل ـ علم ما سيكون منهم قبل أن يوجدهم ؛ فعلم مثلا من آدم وإبراهيم وموسى ومحمد ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ أنه سيكون منهم الطاعة ، وعلم من إبليس ونمرود وفرعون وأبي جهل وأبي لهب أنه ستكون منهم المعصية ، وعلم أنه لو ترك كلا واختياره وفوض إليه أفعاله لم يكن منهم إلا ما تعلق به علمه ؛ من طاعة أولئك ، ومعصية هؤلاء. وحينئذ استوت حالتا جبرهم على أعمالهم وتفويضها إليهم ، فلو فوّض إليهم أعمالهم والحالة هذه ، لضاعت فائدة التفويض ، ولم يبق فيه إلا مجرد مفسدة مشاركة المخلوق له في الاختراع ، فرغب سبحانه وتعالى ـ ببالغ حكمته عن هذه المفسدة المجردة ، وآثر التوحد في خلقه من غير مشارك ؛ صيانة لجانب الإلهية والملك عن وصمة المنازعة والشرك.
ثم إنه ـ عزوجل ـ لما علم أن في خلقه من يعترض عليه ويقول : إنك إذا أجبرتنا لم
__________________
(١) انظر الملل والنحل : [١ / ٤٣] وسير أعلام النبلاء [٤ / ١٨٥] والبداية والنهاية [٩ / ٣٦].