تعدل فينا ؛ ولو فوضت أعمالنا إلينا لقمنا من طاعتك بما علينا ـ أخفى عنهم طريق الجبر بلطيف حكمته ؛ ليقيم عليهم بالغ حجته ؛ وذلك بأن خلق فيهم أفعالهم بواسطة مشيئاتهم ، فظنوا أنهم لها خالقون ، وإنما هم بلطيف الحكمة وعظيم القدرة مجبورون غالطون ، وذلك اللبس عليهم من شؤم اعتراضهم ، ولو سلموا الأمر لرب الأمر ، لكشف لهم عن حقيقة الأمر.
وتقرير ذلك أنه ـ عزوجل ـ إذا شاء من عبده فعلا ، خلق له مشيئة ذلك الفعل ، ثم خلق ذلك الفعل على أدوات العبد ، موافقا لإرادته. وهذا مستفاد من قوله ـ عزوجل ـ : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٩) [التكوير : ٢٩] فمشيئة الله ـ عزوجل ـ سبب مؤثر أبعد ، ومشيئة العبد سبب مقارن أقرب.
فالقدري نظر إلى المقارن لقربه ، والجبري نظر إلى المؤثر ، ولم يمنعه من ذلك بعده ، فكان نظره أسدّ. وعلى هذا ، فنسبة فعل العبد إلى الرب ـ عزوجل ـ شبيه بنسبة التالي إلى المقدم في الشرطية اللزومية ؛ نحو : «إن كانت الشمس طالعة فالعالم مضيء» ، ونسبته إلى العبد نسبة التالي إلى المقدم في / [٥ أ / م] الشرطية الاتفاقية ؛ نحو : «إن كان الإنسان ناطقا فالفرس صاهل».
إذ الله ـ عزوجل ـ مؤثر في الفعل على جهة الغلبة ، والعبد ليس له منه إلا وقوعه مقارنا له على جهة الاتفاق ؛ ولهذا تراه ربما أراد الفعل وسعى فيه فلا يقع ، وربما كرهه وتحرز منه فيقع ؛ فدل على أن المؤثر فيه غيره ، وإنما العبد واسطة / [٩ / ل] لإقامة الحجة عليه.
وأما ما احتج به المعتزلة ، فراجع [إما] إلى التحسين والتقبيح العقلي ، وهو ممنوع ، أو إلى دعوى الضرورة في غير موضعها ، وهو مكابرة.
وقد بقي الكلام بين الجبرية والكسبية :
فقالت المجبرة : اتفقنا وإياكم على أن الله ـ عزوجل ـ هو خالق فعل العبد ، وادعيتم أن هناك للعبد كسبا ، ونحن ننكره ، فعليكم إثباته ، ولا سبيل لكم إليه ؛ لأن الله ـ عزوجل ـ إذا خلق في العبد فعلا وقضى عليه بأمر : فإما أن يكون للعبد قدرة على التخلص من ذلك الأمر بألا يقع منه ، أو لا يكون :
فإن كان له قدرة على ذلك كانت قدرته أغلب من قدرة الرب ـ عزوجل ـ ومشيئته أنفذ من مشيئته ؛ فيكون أولى بالربوبية ؛ وحينئذ يصير العبد ربا والرب عبدا ، وإنه محال.
وإن لم يكن له قدرة على ذلك كان الفعل منه واجبا بمجرد الخلق ولا أثر للكسب ؛ فسقط اعتباره ، ولأن الكسب الذي تدعونه : إما مخلوق للعبد ، وهو خلاف مذهبكم ؛ إذ