أحوال من الأنبياء ليطيق أن يحمل بدائع الواردات العجيبات له ، فإذا قوي بها يثبّته بكشف جماله وجلاله حتى يطيق أن يعبر على بحار نكرات القدم ، ولا يتغير بطوارق المكربات والامتحانات.
ثم إنّ الله سبحانه يقوي قلوب تابعيه من الأولياء والمؤمنين بما جرى عليه من أحكام الغيب وأنباء الأزلية ، ليطيقوا أن يحملوا أثقال ما أوحي إليه ، فثبّت قلب النبي صلىاللهعليهوسلم بقصة الرسل ، وما كشف لهم ، وثبّت قلوبهم الأمة بقصته وحاله ، فما أشرف هذه الأمة ، حيث هو عليهالسلام سبب تثبيت قلوبهم.
وتصديق ما ذكرنا قوله تعالى : (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) : صورة القرآن موعظة لأهل المعاملات وحقائقه بنصره لأهل المعاينات ، يعرف الكل من بحار القرآن ما يوافق حاله وفهمه وإدراكه ، فالعموم متعلقون بظاهره ، والخصوص متعلقون بباطنه ، وخصوص الخصوص في تجلي الحق فيه ، وحقيقة القرآن هو الصفة الأزلية ، فإذا انكشف القرآن بأصله فقد انكشف الحق فيه لمن خص بخصوصية الصفة ، وأخبر بذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ فقال : إنّ الله يتجلى لعباده في القرآن.
قال أبو زيد : فوائد القرآن على حسب ما يؤهل له مستمعه ، فمن سمعه من أمثاله ففائدته فيه علم أحكامه ، ومن سمعه كأنما سمعه من النبي صلىاللهعليهوسلم يقرأ على أمّته موعظته منه بيان معجزته ، وانشراح صدره بلطائف خطابه ، ومن سمعه من جبريل عليهالسلام كأنّما يقرأ إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ؛ فمشاهدته في ذلك مطالعات الغيوب والنظر إلى ما فيه من الموعود ، ومن سمع الخطاب فيه من الحق فني تحته ، ومحقت صفاته ، وصار موصوفا بصفات التحقيق يعني عن علم اليقين وعين اليقين ، ويحصل في درجات حق اليقين.
قوله تعالى : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : غيب السماوات الأرواح ، وغيب الأرض القلوب ، يعلم ما أودع الأرواح من علوم كنوز الذات ، ويعلم ما أودع بابه عن أسرار الصفات.
وأيضا : غيب السماوات ما في قلوب الملائكة من علوم المقادير التي تجري بنعوت القضاء والقدر على أفعال العباد ، وغيب الأرض علوم معرفة ذاته وصفاته في قلوب الأنبياء والمرسلين والعارفين والصادقين.
وقوله : (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) ، (الْأَمْرُ) هو الأرواح ترجع إليه على قدر مشاربها من عيون الصفات وأنوار الذات ، ثم رغبة إلى عبوديته التي تورث الحرية ، والحرية تورث التوحيد ، والتوحيد يورث التجريد ، والتجريد يورث التفريد ، والتفريد يورث المحو في