موجودا بكمال جميع الصفات ، إذ لو كان خاليا عن الأمر والكلام كان ناقصا ، مع أنه تعالى قادر يخلق الأشياء على حد الكمال. سئل بعضهم ما كان يكفي الإرادة والمشيئة حتى أظهر قول كن.
قال : خفية الإرادة والمشيئة ، فأظهر الأكوان في المعلوم ، وأظهر لفظة : كن ؛ فأخرج الأكوان إلى الوجود.
قال الواسطي : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ) إنه على قدر المعارف إشارة إلى القدرة ، وأما الحقيقة فليس للحق مكون ، كما أنه ليس له موجود ، إذ لم يكن له معدوم ، فإذا كانت الأشياء بذاته ظهرت ، وبه وجدت لا بصفاته فلم يزل ، كما لا يزال إلى أنه لم يكن ، أظهر بعضهم لبعض ظهور الأشياء بذاته لا بصفاته.
(بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧))
قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) أخفى الله سبحانه مكنون أسرار كتابه كما كانت بالحقيقة إلا على نبيه ؛ لأنه كان بتلك الحقائق مخاطبا ، وكان بها مأمونا ؛ ليبيّنها لأمناء المعرفة وأصفياء الحقيقة ، الذين لهم استعداد قبول الحقائق ، ولهم أسماع الأهلية الحاضرة لشهود الغيب ، وسماع الأنباء العجيبة ليتفكروا فيها بعقول كاملة ، ويستخرجوا جواهر علومها بأسرار ظاهرة ، وهمم عالية ، وخواطر مشرقة ، وإدراكات منيرة ، وهم لا يضيعونها بأن يقولوا عند غير أهلها فيسقطوا عن درجة الأمانة ، وأنشد ما ذكرنا :
من سارروه فأبدى السر مشتهرا |
|
لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا |
وجاء بنوه فلم يسعد بقربهم |
|
وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا |
لا يصطفون مذيعا بعض سرهم |
|
حاشا ودادهم من ذاكم حاشا |
قال ابن عطاء : قطع عقول الخلق عن فهم كتابه ، والإشراف عليه والنبيين منه إلا عقل النبي صلىاللهعليهوسلم ، فإنه قال له : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) ، وإنّ فيه أحكام الخلق والخطاب معك ، وأنت صاحب البيان لهم بما أنزل عليك ، فإنهم في مقامات الوحشة ، وأنت في محل الحضور ومحل الائتمان ، فبيان الكتاب ما تبينه ، وآداب الشريعة ما ترسمه ؛ لأنك الأمين في جميع الأحوال ؛ ولا يؤتمن على أسرار الحق إلا الأمناء من العبيد.