ثم وصفهم بالإخبات والتواضع والخنوع والخشوع في عظمته وجلاله وكبريائه وبشرهم بدوام وصاله بقوله : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤)) ، ومن أوصاف المخبتين الفناء في العظمة والحياء في رؤية الكبرياء والخجل في مشاهدة الربوبية ، والتواضع في العبودية ، وكتمان الأسرار والبكاء في الخفية والسكون في الخلوة ، ومراقبة الله بنعت الهيبة.
قال ابن عطاء المخبت هو الذي امتلأ قلبه من المحبة ، وقصر طرفه عما دونه كما أن الفريق شغله نفسه عن كل شيء سوى نفسه كذلك المخبت لشغله مولاه عن كل شيء سواه.
وقال جعفر : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤)) : من أطاعني ثم خافني في طاعته ، وتواضع لأجلي ، وبشر من اضطرب قلبه شوقا إلى لقائي ، وبشر من ذكرني بالنزول في جواري ، وبشر من دمعت عيناه خوفا فيحظوا بشراهم «إن رحمتي سبقت غضبي» (١).
ثم زاد سبحانه في وصفهم بوجل القلوب من معاينة أنوار الغيوب ، والصبر في المجاهدات ، وتطهير أنفسهم من الذنوب بقوله : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) إذا سمعوا خطاب الله من الله ، ولله من غير الله ، وجلت قلوبهم من رؤية عظمة الله ، والشوق إلى لقاء الله ، وغلبان محبة مشاهدة الله وقع السماع لهم على آذان أرواحهم المطربة من روح أنس الله العاشقة جمال قدس الله ؛ فتضطرب بين الأنس والقدس بنعت المحبة والشوق وتطير بجناح المعرفة إلى سرادق كبرياء المعروف ؛ فيسكن هناك وجلها ، واضطرابها فتسمع من الله خطابه ، وتطمئن بجماله ، قال تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨] ؛ فإذا سمع الذكر من غيره اقتضى الوجل ، وإذا سمع من الله اقتضى السكون والطمأنينة (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) الذين وصفهم الوجل والإخبات صبروا تحت موارد أنوار مشاهدته إذا أتت عليهم طوارقها بأثقال الربوبية لا يجزعون ولا يتحركون حتى يفنوا في كبريائه ويبقوا في بقائه.
قال ابن عطاء : هل رأيت ذلك الوجل عند سماع الذكر أو عند سماع كتابه أو خطابه أو هل أخرسك الذكر حتى لا تنطق إلا به ، وأصمك حتى لم تسمع إلا منه هيهات هيهات.
قال الواسطي : الوجل على مقدار المطالعة ربما يريه مواضع السطوة وربما يريه مواضع المودة والمحبة.
وقال أبو علي الجوزجاني : في قوله : (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) : التاركي الجزع عند حلول النوائب والمصائب.
__________________
(١) رواه البخاري (٦٩٦٨) ، ومسلم (٢٧٥١).